الأربعاء , 24 أبريل 2024
الرئيسية » تاريخ النجف الأشرف » الصناعات والمهن النجفية المنقرضة

الصناعات والمهن النجفية المنقرضة

 

الدكتور عباس الترجمان

بسم الرحمن الرحيم

وله الحمد وبه نستعين

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين والطيبين من أصحابه أجمعين.

لما كان النجف الأشرف أكبر مركز ديني إسلامي في العالم طيلة عشرة قرون، وهي الحاضرة الشيعية العظيمة التي ترسل أشعتها على العالم الإسلامي قاطبة، وتمده بالعلوم القرآنية الكريمة، وتفيض عليه بالعلماء والفقهاء والمرشدين والأدباء، لتهديه إلى عالم النور والإيمان، لذا كانت مطمح أنظار المسلمين ومهوى أفئدتهم ولا تزال، ومنال حاجاتهم في جميع المجالات، حتى في مجال الصناعة والتجارة، بالإضافة إلى القيادة العلمية والمرجعية الدينية المتمركزة فيها، وكذلك في مجال التوجيه الثوري والأدبي.

ولما كانت هذه المدينة المقدسة قد شيدت على نجفة من الأرض تشرف على جهتي غربها وجنوبها على واد واسع جداً يمتد شمالاً إلى أغوار الشام، وغرباً إلى الحجاز، كما أثبتت ذلك لجنة الطرق والمواصلات الدولية العاملة في العراق، وكانت قوافل الحاج ـ ولقد أدركنا وشاهدنا ـ تأتي من سائر الدول الإسلامية الشرقية من العراق وإيران وأفغانستان وباكستان والهند وغيرها إلى النجف الأشرف، وتنطلق منها على صورة قوافل سواء في ذلك أيام الجمال أو السيارت إلى الحج نحو مدينة “حائل”  التي كانت مركز إمارة عبد العزيز متعب الرشيد “ابن الرشيد” الذي قضى عليه وعلى إمارته السعوديون، ثم إلى المدينة المنورة، ومنها إلى مكة المكرمة.وكان الحجاج يتزودون من النجف الأشرف بما يحتاجونه لطريقهم الطويل الشاق هذا، ولمناسك الحج من لباس الإحرام والمحفظات سواء كانت للألبسة أو النقود المعروفة عندهم بالهميان، وهي تصنع على شكل منطقة يتمنطق بها الحاج ليحافظ على نقوده من اللصوص.

وهي بالإضافة إلى كونها منطلقاً لطريق الحج الرئيسي تقع كثغر البادية العراقية، وبوابة تنفتح عليها، فكانت مدن البادية العراقية والعربية تؤمّن مات تحتاجه من النجف الأشرف، وقد شاهدنا قوافل الجمال التجارية التي كانت تحمل التمور والحبوب والفراء والألبسة والقدور وغيرها، وتقصد البادية. وكانت المدينة تزخر بالبدويين القاصدين للتجارة يترددون في أسواقها، ولاسيما السوق الكبير.

ولما كانت هذه المدينة المقدسة مزاراً شريفاً يزار فيه مولى الموحدين وأمير المؤمنين علي عليه السلام، وهو مقصد الزائرين وعشاق الأديب والفضيلة وهذا الإمام المظلوم العظيم.

ولما كانت هذه المدينة أكبر مدن منطقة الفرات الأوسط، وتعتبر أم القرى لهذه المنطقة ويقصدها أهالي المنطقة ليتزودوا بما يحتاجونه في أمورهم المعاشية.

لكل هذه الأسباب وغيرها كان أهالي النجف الأشرف مدعوين لتلبية مطالب القاصدين إليها، والقيام بسد احتياجاتهم بدافعين رئيسيين: الواجب الديني الكفائي، والعمل التجاري والكسب.

فانبرى سكان هذه المدينة العاملون ـ كل حسب رغبته وهوايته ـ هذا يمتهن الصرافة وذلك يخيط الدلاء، وآخر يصنع الفراء، ومن يبيع الماء أو الطلقات النارية التي تعبأ في النجف الأشرف وغيرها من الأعمال والصناعات اليدوية. وقد انقرضت هذه الصناعات لانقراض دواعيها وأسبابها، أو لمنعها من قبل الحكومة، وسنذكر أهمها باقتضاب كما يلي:

1ـ السقائون:1558475_347857302018748_552927864_n

كان عندنا في النجف نوعين من السقاية والسقائين:

أ ـ السقاء العرب: وهم الذين يبيعون الماء على البيوت، وكان هؤلاء يملأون قربهم من جدول الأمير غازي في غربي النجف الأشرف، وهو ماء غير نقي وغير صحيح، ويجعلونها على حميرهم حتى يصلوا إلى المدينة، فيدورون في الأزقة منادين: “ماي فروع” أي ماء فرات. فيدعوهم من يحتاج، فيملأون لهم الكيزان. ويقال له: “السقاية”. ومن مشاهير هؤلاء ـ وهم كثيرون جداً ـ : “شمران” و”علي دوكي” و”السيد مهدي السقة” و”عباس” وكان هذا الأخير قزماً رحمه الله تعالى.

وما إن أسس المرحوم الحاج معين التجار الطهراني مشروع إسالة الماء في النجف الأشرف حتى أخذت هذه المهنة في الضمور بعد أن أقام السقاء هؤلاء بالتزود بالماء من خزان هذا المشروع، حتى اختفت المهنة نهائياً، ولم يعد لها أي ذكر.

ب ـ السقاء العجم ـ وهم الإيرانيون ـ وكان هؤلاء يحملون الجرار والأقداح، وفيها الماء النقي المبرد، ويبيعونه ليوزع مجاناً في سبيل الله، ويسقوا العطاشى، وكان مقر هؤلاء في الصحن الحيدري الشريف، يتجولون وينادون ترغيباً في بيع الماء، فيأتي أحد الزائرين أو السكان، فيدفع في الماء ليسقي به العطاشى، فينادي: “سبيل يا عطشان” أو بالعكس:
“يا عطشان سبيل” فيسقي حتى ينفد ماء الجرة، فيذهب إلى مقره ويملأها ثانية وثالثة حتى الليل. وقد منعتهم الحكومة من التجمهر وبيع الماء في الصحن الشريف فتقلصوا. وكان البقية منهم يقفون بباب الصحن المؤدي إلى السوق الكبير. ثم انقرضت المهنة نهائياً؛ لتوفر الماء الصحي في كل مكان.

وقد كتبنا حول السقاء هؤلاء بشيء من التفصيل في بحثنا: المواكب العزائية في “النجف الأشرف” موضوع موكب السقائين فليراجع من أراد الإطلاع.

2ـ صانعو الدلاء:

الدلاء: جمع دلو. وهي على قسمين: محلية وتجارية:

1ـ المحلية ويقصد بها الاستهلاك المحلي, وهي صغيرة نسبياً تصنع إما من الصفائح الحديدية أو الجلود المدبوغ، وتكون على شكل اسطواني، وغالباً ما تكون من الجلود لخفتها بقطر ثلاثين سانتيماً أو أقل أو أكثر بقليل، وارتفاع أربعين إلى خمسين سانتيماً وتصنع من الجلود المدبوغة في النجف الأشرف، ويفضل لصنعها جلود الإبل.

وكان سكان النجف الأشرف، بحاجة ماسة إلى هذه الدلاء لملء حياضهم من ماء الآبار العميقة البعيدة الغور، لبعد المدينة عن الأنهار وموارد المياه؛ لذا كانت كل دار في النجف الأشرف لا تخلو من بئر وحوض، وكان ماء الآبار هذه أجاجاً شديد الملوحة، بحيث لا يستساغ شربه، كان السكان يملئون حياضهم من هذه الآبار من هذه الآبار لغسل الملابس والاستحمام والوضوء وأشباه ذلك.

وكانت جماعة قد امتهنت إخراج الماء من هذه الآبار وتدعى بـ (الملّائين)، وكانوا غالباً من العميان، يقاضون أجوراً زهيدة مقابل ملء الحوض، وأتذكر جيداً أنهم كانوا يستعينون على هذا العمل الشاق، بقراءة الأشعار والأبوذيات من الناحية النفسية وكان النساء يتفاءلن بأشعارهم، وهذا ما رأيته وسمعته مراراً. وقد انقرضت مهنة الملّائين بعد تأسيس مشروع إسالة الماء في الشوارع والأزقة والبيوت.

2ـ الدلاء التجارية:

ونقصد بها التي كانت تصنع وتصدر من النجف الأشرف إلى البادية غالباً أو إلى المزارع المجاورة في الكوفة وأبي صخير وأبي شورة (العباسية) وما قاربها التي تحتاج إلى رفع المياه بواسطة الكرود لسقي الأراضي الزراعية. وهذه بصورة خاصة كانت تصنع من جلود الإبل المدبوغة في النجف الأشرف، وهي كبيرة بالنسبة للدلاء المحلية. تصنع من قطعة جلد كبيرة على شكل دائري، ثم يكف محيط الدائرة، أي حفاتها نحو الداخل ليصنع منها فوهة الدلو، فيحتاج إلى ثني الحافة عدة ثنيات بصورة عمودية مما يلي الفوهة لصغر محيط الفوهة، وبعد صنعها وخياطتها بواسطة شريط جلدي يخاط على حافة الفوهة ليحافظ على بقاء الثنيات بخيوط جلدية أيضاً، تخاط لها عري ثلاث أو أربع، وتضغط، فتكون على شكل دائرة كبيرة هي القاعدة إن صحت هذه التسمية ودائرة أخرى تتكون منها أي من قلب حافة الجائرة الكبيرة، وفي وسطها الفوهة والعرى بحيث عندما تملأ بالماء تشكل حجماً كروياً تقريباً, ويكون قطر هذه الدائرة المنثنية سبعين أو ثمانين سانتيماً أو أكثر.

وكان من جملة الممتهنين بهذا الصناعة اليدوية الشاعر المرحوم (حميدان مدنية) الذي سبق ذكره في بحث (المواكب العزائية) وبحث (ملامح اللهجة النجفية). وكان مقر هذه المهنة غالباً في الزقاق الأول المتشعب من السوق الكبير عن يسار الداخل إليها المعروف باسم (عكد اليهودي). وقد انقرضت هذه المهنة بانقراض دواعيها.

3ـ السراجة:

وهي مشتقة من كلمة (سرج) الخيل. ويقال لممتهنها (السراج) وكانت هذه شائعة في النجف الأشرف، وكنت قد شاهدت عدداً من السراجين في السوق الكبير، بقي آخرهم إلى وقت إخراجنا قسراً ولكن مع تغيير المهنة.

والسراجة تعتمد على الجلود المدبوغة أيضاً, والسراج يقوم بالإضافة إلى صنع سروج الخيل بصنع الأحزمة والمنطقات التي تشد السرج ببطن الفرس وعجزه، وصنع الأعنة، وتهئية اللجم والركائب الحديدية، وصنع أحزمة تحتوي على أمكنة للعتاد والطلقات النارية التي يطلق عليها اسم (الفشك) والحمائل، وصنع أغلفة البنادق التي تشد إلى جانب الفرس والأحزمة المختلفة ومحفظات النقود وما شابه ذلك.

وكان آخر محل لهذه الصناعة اليدوية في السوق الكبير لرجل شيخ بدين لا أتذكر اسمه هو والد كل من الشيخ عباس السراج وعبد الصاحب السراج. وكان الشيخ عباس هذا قد ترك المهنة بعد كسادها، وأصبح من خطباء المنبر الحسيني وهو رحمه الله أبو خضير السراج.

وكان البدويون والريفيون يقصدون النجف الأشرف لشراء هذه البضائع المصنوعة فيها. وانقرضت هذه المهنة لكساد سوقها.

4ـ صنع الفراء: جمع فروة، وجمعها في اللهجة (فراوي) والفروة كالجبة تتخذ من فروة الغنم بصورة خاصة، وكان جماعة في النجف الأشرف يخيطون هذه الفراء من جلود الغنم التي لم ينتف صوفها، والقسم الصوفي يجعل في باطن الفروة والجلدي في ظاهرها، ويصبغ القسم الجلدي فقط بصبغ أصفر. وكانت هذه الفراء تصنع بصورة بدائية جداً، لا يعتني بها من حيث المهارة والفن. ولا يقبل على شرائها إلّا البدويون الذين كانوا يرتدونها في الصيف أكثر من الشتاء لتقيهم حرارة الشمس مع ما يحتاجه البدويون كالعصي (الخيزران) والحبال التي كانت تعرض في المحلات.

فانقرضت هذه الصناعة اليدوية وتجارتها في النجف الأشرف لتغير الأحوال والظروف.

5ـ المغازل:

جمع مغزل، وهي آلة يدوية تتألف من خشبة كقلم الرصاص، أطول منه بقليل في رأسها شرخ ملتو لمسك الخيط تتوسطها درقة خشبية لتكون حداً للخيوط الملفوفة عليها وهذه الآلة البسيطة تستعمل لغزل الصفوف أو القطن, وكان المغزل بعد خرطه يلون بألوان مختلفة على شكل دائري. وهذه الصناعة تعتمد على الخشب والخراطة، وكانت شائعة في النجف الأشرف، بحيث كان لها سوق خاصة تعرف بـ (سوق المغازل) تقع جنوب سوق المغازل تقع جنوب سوق المسابك المتشعب من السوق الكبير، في الطريق المؤدي إلى مقبرة المرحوم السيد نور الياسري، والفرع الأول المتشعب من السوق الكبير عن يسارها نحو حسينية البراق، وهم كثيرون، وآخر من بقي منهم الحاج صاحب أبو المغازل والد مهدي الصيدلي. وقد كسدت سوق هذه الصناعة اليدوية، ولم يبق منها أثر يذكر كسابق عهدها؛ لأن النجفيات كن وقد اعتدن أن يغزلن الصوف بأيديهن، ونسج ما يغزلن بواسطة النساجين  مع ثم يخيطن النسيج على شكل عباءة بعد صبغها بواسطة الصباغين، وكن يلبسن العباءة الصوفية، ويرتدين تحتها عباءة من جنس لطيف على الأكتاف تجر أذيالها على الأرض تشدداً في الحجاب. وكنّ ـ أيضاً ـ يغزلن الخيوط الدقيقة جداً بمهارة فائقة واعتناء من الصوف الخالص للعباءات الرجالية الصيفية الرقيقة، والتي لها قيمتها وروادها في النجف الأشرف وغيرها. وبعض النساء يمتهن الغزل الدقيق، ويجلسن عصراً مقابل المسجد الهندي أو إلى جانب جدار فيأتي النساجون ويشترون هذا النوع من الغزل ولذا جاء مثلهم “من يعرف فطيمة بسوكَـ الغزل”.

أما النسائيات فلم يعد لها أثر ولا عين. وأما الرجاليات فما زالت لها قيمتها، وتستهلك محلياً ويصدر منها إلى خارج العراق إلى السعودية والإمارات العربية وسوريا.

وقد قلت حول العباءة النجفية في “الأرجوزة النجفية”:

        أما العباءات فمنها التحــــــــــــــف           في خارج البلاد طراً تعــــــرف

        مرغوبة في سوريا شهـــــــــــــيرة           تطلب في الخليج والجــــزيـرة

        خيوطه دقيقة ظريـــــــــــــــــــــــفة          

  شفافة في وزنها خفيفـــــــــــة

        مشهورة باسمها أسواقـــــــــــــــها            من أجلها يقصدها مشتاقهـــــا

وكان صناع المغازل يصنعون المراصع أيضاً (جمع مرصع)، وهي تصنع من الخشب على شكل مخروط، يسمر في قمته مسمار حديدي مدبب الرأس. وهذه الآلة تتخذ للعب الأطفال، حيث يلفون حولها خيطاً سميكاً يدعى عندهم (شارك) يبدأ لفه من المسمار الذي يدعونه (نبلة) إلى أكثر من النصف، ويلف اللاعب الرأس الثاني من الخيط على خنصره، ثم يرمي المرصع إلى الأرض بشدة في حال اجتذاب الخيط منه، فيقع على الأرض بنبلته وهو يدور حول نفسه، وربما يحدث صوتاً يشبه الصفير لشدة دورانه واصطدامه بالهواء المحيط به.

وقد كسدت سوق المغازل والمراصع أيضاً، ولست أدري هل بقي من يقوم بهذه الصناعة اليدوية أم لا؟!

6ـ النعالة:

جمع النعال: وهو من يشتغل بالنعل، والذي يعرف في اللهجة النجفية “النعلبد” وهي كلمة دخيلة فارسية مركبة من كلمتين: عربية (نعل) وفارسية (بند): الحبل، أو السير، أو الشد. والمركبة منها تعني (مركب النعل) ويقصد هنا من النعل نعل الفرس. وكان للنعالين عدة محلات يعملون هذا العمل للخيل والبغال،ولاسيما في أيام السكة الحديدية بين النجف والكوفة والعربات التي كانت تجر الخيل.فأتذكر جيداً أن الذين كانوا يمتهنون هذه المهنة كانوا في عمل دائب، سواء في صنعهم النعل أو تركيبها، والنعل هي قطعة حديدية بيضوية ناقصة على حجم مقدم حافر الفرص، فيها ثقوب تستمر بأطراف الحافر بواسطة مسامير. وفائدة هذه النعل أنها تحافظ على الحافر من التآكل من شدة الجري، كما يحافظ الحذاء على قدم الإنسان.

وأتذكر من جملة الذين كانوا يعملون في هذه المهنة أخوين شيخين هما الحاج رضا والحاج كاظم نعلبند، كان محلهما في أول شارع من الجديدة، في ملك المرحوم إبراهيم الكاشي الجراح المعروف، مقابل شارع الخورنق المعروف بشارع الثانوية، وقد انقرضت هذه المهنة أيضاً.

7ـ طباعة اليشماغ:اليشماغ

الحاجة أم الاختراع والإبداع، وسبب الإقبال على هذه المهنة المبتدعة في النجف الأشرف هي الحاجة إلى اليشماغ في جميع المدن العراقية, واليشماغ كوفية بيضاء مطرزة بخيوط سوداء، تغطي الرأس والعنق وتسدل زوائدها على الكتفين والظهر، ويوضع عليها  (على الرأس)  عقال ليمنعها من الحركة عند هبوب الرياح. والعقال واليشماغ من الأزياء الشعبية الرائجة في أكثر المدن العراقية.

وعندما نشبت الحرب العالمية الثانية ارتفع سعر اليشماغ اللندني على ما أتذكر إلى دينار واحد لليشماغ الواحد, وكان الدينار آنذاك يحلف بوجوده؛ لندرة حصوله إلا لدى الموسرين. فبادر النجفيون لحياكة الكوفيات أولا، ثم عملوا صورة نقش اليشماغ، فسلموها إلى المرحوم السيد هاشم النجار أخي السيد حسين النجار الرادود وابن المرحوم السيد محمد السقاء النوراني الوارد ذكره في الرواديد في بحث (المواكب العزائية في النجف الأشرف) وكان السيد هاشم رحمه الله يلبس العمامة السوداء ويرسل لحيته، وهو من الأخيار المعروفين، وكان ماهراً في النقش على الزجاج والتنبيت في الخشب. فعكس صورة اليشماغ على لوحة خشبية، ثم نحتها نحتاً رقيقاً، وجعل خلفها مقبضاً، وتسمى هذه الكليشة الخشبية قالباً.

والممتهن هذه المهنة يسمى طباعاً، يقف خلف منضدة كبيرة، قد وضع عليها غشاء سميكاً من الأقمشة، يفرش عليها الكوفية البيضاء، ثم يغمس وجه القالب المنحول في صبغ أسود، ثم يضغط على الكوفية ضغطاً لطيفاً، فيطبع طبعة منها، ثم يغمس القالب مرة ثانية ويطبع قطعة أخرى إلى جانب الأولى بمهارة ودقة لتتناسق النقوش، وهكذا يكرر العملية بسرعة حتى يطبع جميع سطح الكوفية، فينقش عليه صورة اليشماغ، واكتفى الفقراء والطبقة الوسطى من الناس في جميع أنحاء العراق باليشماغ المطبوع في النجف الأشرف، حتى المناطق الكردية، الذين يتخذون من اليشماغ عمامة لهم يدْعونها (جرواية).

ونفقت سوق الطباعة هذه واليشماغ المطبوع، وكثر العاملون بها، حتى أثرى البعض من أرباحها، وافتتحت محلات لتجارة اليشماغ المطبوع وتصديره. لكن بمجرد أن انتهت الحرب العالمية الثانية، ودخلت معامل نسيج اليشماغ إلى العراق هبط سعره هبوطاً أدى إلى كساد سوقه واستغنى عنه الناس فأخذت المهنة هذه تنحو نحو الانقراض تدريجياً حتى الانقراض

8 ـ صناعة الطلقات:_MG_4013

جمع طلقة: وهي أنبوب صغيرة من البرونز أو النحاس مختلفة الحجوم ـ حسب أنواع المسدسات والبندقيات التي تصنع لها، تملأ من البارود، ويوضع في فوهتها قطعة من الرصاص مدببة الرأس، ضغط فيها ضغطاً ماهراً لطيفاً، وتسمى في اللهجة النجفية (فشكة) وهي من الكلمات الديخلة.

وكان الممتهنون بهذه المهنة يعملون سرا في بيوتهم، ولهم عمال يتخطون في السوق الكبير ذهاباً وإياباً، يحملون معهم أكياساً صغيرة فيها أنواع (الفشك) الطلقات حسب الطلب ينادون بصوت خافت كالهمس: (فشك، فشك)، وتباع بأسعار رخيصة إذا ما قيست بالعتاد الأجنبية، وأكثر طلاب هذه العتاد هم أبناء العشائر العراقية (الريفيون) والبدويون.

وقد كسدت هذه الصناعة والمهنة بعد تشديد النظام السابق في العراق بمنع الأسلحة منعاً باتاً، ومعاقبة الممتهنين بهذه المهنة وكبس دورهم وسجنهم.

9ـ الحملادارية (العكامون):

جمع حملدار, والكلمة دخيلة فارسية, معناها لغة: صاحب الحملة, واصطلاحاً: المتكلف بشؤون جماعة من الحجاج ذهاباً وإياباً, وهو الدليل على مناسك الحج أيضاً، ويطلق عليه (العكام).

ولما كانت مدينة النجف الأشرف تشرف كما قلنا على طريق البادية، وهو طريق الحج البرى؛ كان المسلمون القاصدون إلى بيت الله الحرام يؤمون النجف الأشرف، ويتفقون مع أحد العكامين المعروفين بصلاحهم وخدماتهم وسلوكهم الحسن مع الحجاج لاستئجار الإبل من النجف الأشرف؛ لتحملهم وتحمل أثقالهم إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، إلى مكة المكرمة ومنها إلى النجف الأشرف، ويقوم بدلالة الحاج وإرشاده إلى مناسك الحج وكيفيتها. وكان هؤلاء يتقاضون أجراً على عملهم وخدمتهم يتفق عليه مسبقاً، ويزيدهم بعض الحجاج إكراماً وإنعاماً, وكان آخر من رأيت من هؤلاء العكامين المشهورين المرحوم الحاج محمد حسن محي الدين والد مكي محي الدين.

ثم جاء دور السيارات لنقل الحجاج، فانبرى جماعة من النجفيين لهذا العمل، منهم المرحوم الحاج القهواتي الأصفهاني، وبعده ابنه الحاج جعفر القهواتي، الذي أصبح مديراً لمشروع الماء في البجف، والمرحوم الحاج حسن الشكرجي بن المرحوم الحاج علي سبيلو وغيرهم فكانوا يتكلفون أمور الحجاج، فكانوا يتكلفون أمور الحجاج، وهم يتفقون مع أصحاب السيارات على الأجور.

ولا زالت آثار هذه المهنة بلونها الباهت موجودة في النجف وكان لها دور مهم في تنظيم القوافل؛ لأن الطريق لم يكمن معبداً ولا ممهداً ولا معلماً، فكان من الواجب أن تسير السيارات بصورة قوافل خشية من العطل واتيه في الطريق الذي لا نبت فيه ولا ماء، وأغلبه رمال نفوذية دقيقة، تغور فيها عجلات السيارات، ولا يمكن اجتيازها إلا بوضع الألواح الخشبية تحت العجلات في منطقة النفوذ (الرمال النفوذية)؛ وذلك ليتعاونوا في قطع هذا الطريق الشاق الطويل. وربما كان يصل عدد سيارات القافلة الواحدة إلى المائة سيارة، وبين أسبوع وأسبوع تنطلق قافلة من النجف، ويخرج السكان لتوديع الحجاج قربة إلى الله تعالى أو صلة للرحم، أو استعراضاً للسيارات. وكنا نشعر بلذة وغبطة عند الوداع والاستعراض، فكان لها منظر جميل ووقع جميل في النفوس.

ولكن رجال النظام السابق الذين حكموا العراق والذين سحقوا كل القيم والمثل الإسلامية، وحاربوا الشيعة بعقائدهم ومصالحهم حرباً لا هوادة فيها، ففتحوا طريق البصرة ـ الرياض ليحاولوا القضاء على طريق النجف البري لشل الحكة الاقتصادية في النجف، فلم يعد الطريق مقتصراً على النجف، بالإضافة إلى فتح الطريق الجوي. ولم تعد المهنة تتمكن من الوقوف على أقدامها لتقوم صاحبها.

10 ـ الصرافة:

كان يدخل السوق الكبير يجلب انتباهه أصوات الروبيات الهندية الإنجليزية، وهي مسكوكات فضية، التي تتقاطر في أيدي الصرافين الجالسين أمام شبكاتهم على جانبي السوق، ولها صوت متوال حسب عدد الروبيات، وكان للروبيات صوت خاص يدغدغ الأسماع، لم يوجد في غيرها من المسكوكات، ولذا كانوا يستعملونها فقط لجلب انتباه المارة.

وكان لبعض الصرافين محلات خاصة كالحاج مصطفى الصراف والحاج عباس شكر الصراف وغيرهما، ولكن الأغلبية كان لكل منهم كرسي في جانب السوق خارج المحلات وأمامه صندوق مغطى بصفحة حديدية مشبكة، بعض فيها الصراف نقوده المعدنية والورقية المختلفة، وهو باستمرار يقلب الروبيات من يد ليد بصورة فنية رتيبة، فيخرج الصوت رتيباً متتالياً، لا يتسنى لأي أحد بالتمرين والممارسة.

وكان الصراف يبدل نقداً بنقد آخر، الدينار بالليرة الذهبية العثمانية، أو الروبية أو الروبية الفضية الإنجليزية، أو الريال السعودي، أو  غيرها من نقود الدول المجاورة والعملات الخارجية.

11ـ الصباغون:

ونقصد بهم صباغي الأقمشة والألبسة ويعرفون بـ الصبابيغ، ولهم سوق خاص يعرف باسمهم (سوق الصبابيغ)يقع بعد انتهاء سوق المسابك عن يمين الخارج منه. كان ـ كما شاهدناه ـ لا يضم غيرهم إلا نادراً، ثم نقلتهم الحكومة إلى شارع السور المحيط بالمدينة القديمة في محلة البراق قرب المزار المعروف بمرقد (بنت الحسن) عليها السلام. وكانت حبالهم الكثيرة تملأ السوق وتغطي سماءه عندما يشر عليها الأقمشة المصبوغة بالألوان المختلفة. وكانت أيدي الصباغين مصبوغة بالنيل دائماً؛ لأنهم كانوا لم يتعودوا أو لم تكن لديهم الأكف المطاطية، وكانت أكثر موادهم هي مواداً أولية كالعفص والدباغ والنيل والزاج (الشب) وغيرها.

وأخذت هذه المهنة الأفول شيئاً فشيئاً، حتى بقي واحد من الصباغين حتى إخراجنا من أرضنا المقدسة.

12ـ المسابك:

جمع مسبك، وهو ما يسبك فيه الدبس من التمر، وكان لهذه المهنة سوق فرعية متشعبة عن السوق الكبيرة في وسطه عن يسار الداخل، وأتذكر ثلاثة مسابك كانت في هذه السوق، تعمل الدبس والحلوى من التمر، وتزود الباعة بما يحتاجونه من الدس والحلوى التمرية، وما يفضل من قشور التمر ونواه،وهو ما يدعونه (عصيراً) يباع على أصحاب الحيوانات كالضأن والمعز.. وكان الجبس يستخلص من التمر بالطريقة البدائية القديمة، وما إن استحدثت المعامل الميكانيكية الحديثة في البصرة وغيرها حتى تضائل الإقبال على المنتوجات القديمة، وانصرف السباكون إلى مهن أخرى، وبقي مسبك واحد يقع في الشارع الرابع من منطقة الجديدة في طرف الحويش، ولم أعرف بعد عن مصيره شيئاً. ولم يبق من المسابك إلا اسمها المتمثل في سوق المسابك.

13 ـ صنع الفخار:_MG_3883

وهو الخزف (وكان صنعه وبيعه من المهن الشائعة الرائجة في النجف الأشرف، وكان بائعه يعرف بـ (الكواز) وفي اللهجة النجفية: (أبو الشراب) و(الشراب) جمع (شربة) بمعنى الجرة، وكانت عدة معامل يدوية لصنع الفخار تقع خارج مدينة النجف الأشرف عن غربها مما يلي (الجدول) مجاورة للمدابغ، وهي معامل بدائية تعتمد في حركتها على الرجل واليد، وفي عناصرها على الماء والتراب، أي الطين، بعد نخله وتصفيته مما يشوبه فتصنع الجرار والكيزان بمختلف الأنواع والحجوم، ويطلي بعض الخمرات بلعاب زجاجي أزرق أو أخضر يصنع محلياً. والكوز يطلق على الحجم الصغير من الكيزان، والحجم الكبير يطلق عليه (حب) وجمعه (حبوب).

وكانت للجرار النجفية شهرة عراقية ومرغوبية خاصة ؛ لأنها رقيقة، ناضحة وخفيفة رخيصة، ويبرد الماء فيها أسرع من غيرها، فكانت المدن المجاورة تتزود بجرارها من النجف، وهي من الهدايا التي يقدمها المسافر النجفي لمن يفد عليها. وقد قلت في (الأرجوزة النجفية) عن الجرار هذه:

      جرارها الرقيقة المبــــــــــــــــــــــــــــــــرده               مشهورة في صنعها منفــــــرده

      وكان من يأتي إلى الزيـــــــــــــــــــــــــــاره              من الغري يشتري جــــــــــــراره

وكنت حينما ترد مدينة النجف الأشرف في الصيف ترى على الشرفات سطوح المنازل الجرار المليئة بالماء منذ اصفرار الشمس قبل الغروب، فيبرد ماؤها، بحيث تثلج فؤاد الشارب فيكون للماء طعم هنيء مريء.

ولكن ما إن غزت الثلاجات الكهربائية الأسواق حتى أخذت الجرار والكيزان تتقلص من الاستعمال، وقلّت أهميتها، وكسدت تجارتها، وبقي آحاد في المهنة صابرين على القناعة بمهنتهم.

14ـ الصفارة:

كنا عندما تستطرق في المنطقة الواقعة في السوق الكبير بين سوق المسابك و(عكـد السيف) لا تسمع إلا أصوات الطرق المتتالي العالي المزعج، التي تصك الآذان عن سماع غيرها من الأصوات والصفار هو العامل في الصفر أي النحاس أو بائعه. وكانت بعض محلات الصفارين كبيرة كمحل المرحوم الحاج رضا الصفار، تنسق فيه البضائع جميلاً يدل على ذوق وفن، فمثلاً توضع القدور في جانب من المحل بعضها فوق بعض بحجومها المختلفة، فالحجم الكبير في الأسفل، وفوقه الأصغر منه قليلاً، وفوق هذا الأصغر منه، وهكذا حتى يرقى إلى أصغر حجم، وإلى جانبها صفة الطسوت والصحون والأقداح والمصافي، وغيرها، وإلى الجانب الآخر تصف المساخن وغيرها من الظروف والأدوات. وأما في الجبهة فتعلق الدلال (جمع دلة) وهي إبريق القهوة، صفاً من الكبيرة إلى الصغيرة، وكذلك الأباريق والملاعق الكبيرة والصغيرة بصورة منظمة، بحيث لو أراد المشتري شيئاً يراه أمامه بسهولة، بالحجم الذي يريده والنوع.

ولكن هذه المهنة وتجارتها أخذت بالضمور والانكماش أمام غزو الظروف المعدنية والبلاستيكية التي هي أرخص قيمة، وأخف وزناً، وأقل كلفة من النحاس وبدأت محلات الصفارين تغلق الواحد تلو الآخر، لتحل محلها مهن أخرى.

15ـ الربابون:_MG_3934

والرباب هو الذي يطلي الظروف النحاسية كالقدور والصحون وغيرها بالقلع لأن النحاس يصدأ، والمادة الناتجة عن الصدأ مادة سامة خطرة، فلذا تطلى الآلات النحاسية بالقلع لئلّا يصدأ.

وكان الرباب يسمى باللهجة النجفية (مبيض الكدور). وهذه المهنة تتبع مهنة الصفارة، راجت برواجها، وكسدت بكسادها, وعندما ظعنت تلك عن الأسواق، التحقت بها هذه بلا تأخير.

هذا ما احتفظت به الذاكرة من المهن والصناعات النجفية المنقرضة، ذكرتها باقتضاب

والله الموفق للصواب.

المصدر : مجلة آفاق نجفية العدد – 15 –

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.