وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين والطيبين من اصحابه أجمعين.
للمؤثرات الطبيعية فيزيائية كانت او كيمياوية اثرها في الكائنات الحية ولاسيما الانسان الاكثر احساسا من سائر الموجودات والتاثر بالمفرجات او المحزنات امر طبيعي لا محيص عنه فالانسان يتالم لو اصيب بمصيبة كما يتألم لو ضرب بعصا او غيرها ، وكذلك يسر ويبتش لو شم وردو طيبة الرائحة كما يسر لرؤية حبيب او حادثة سارة، تراه يتاثر لو فرم البصل ، فتسيل دموعه ، ويتأثر بسماع ذكر الرارنج او الليمون الحامض، فيسيل لعابه، ويعطس اذا واجه نور الشمس بمنخريه ، وامثال هذه الامور.
والنياحة على الفقيد الحبيب هو رد فعل طبيعي، لما يتركه هذا الفقد من الالم والحزن في قلب الفاقد فينفعل، وتظهر هذه الانفعالات في ملامح وجهه بانقباظ تجاعيده، وحرقه في جفنيه فتؤدي الى جريان دموعه وهذه امو فيزيائبة طبيعة ، يقوم تحريكها وميكانكيتها الجهاز العصبي دونما اختيار في الجسم.
وقد عبر الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله عن هذه العملية عندما توفي ولده ابراهيم فبكى عليه، واستغرب بعض الصحابة من بكائه، فقال: (ان العين تدمع والقلب يخشع وانا بك يا ابراهيم لمحزنون ولكننا لا نقول ما يسخط الرب) وجرت سنة البشر على ذلك من الاولين والآخرين ولا يمكن انكارها ، وانكارها انكار للمليارات الوقائع من بدء الخليقة الى يومنا هذا.
مشروعية النياحة
قلنا ان النياحة تبعا للمؤثرات المحزنة امر طبيعي ، وما من وجهة نظر الشارع فالادلة البيانية النقلية والادلة العقلية والاحاديث الواصلة الينا بطرق صحيحة لا تنفي شرعيتها ، اذا تدل على جوازها بل استحبابها وزيادة الاجر فيها بالنسبة لبعض الموارد ، كالبكاء في مصاب الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله والائمة المعصومين عليه السلام ، والبكاء على الحسن الحسين خاصة ، واي دليل على مشروعية النياحة والندبة ادل من وصية الامام ابي جعفر الباقر لولده الامام الصادق عليه السلام (اوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب يندبنني عشر سنين بمنى ايام منى)
وقد ذكر الشيخ الطوسي (رض): باسناده عن الامام ابي جعفر عليه السلام انه قال: (مات الوليد بن المغيرة فقالت ام سلمة للنبي صلى الله عليه وآله : ان ال المغيرة قد اقاموا مناحة فاذهب اليهم؟ فاذن لها، فلبست ثيابها ونهيأت ، وكانت من حسنها كأنها جان، وكانت اذا قامت فارخت شعرها جلل جسدها ، وعقد طرفه بخلخالها ، فندبت ابن عمها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت:
انعى الوليد بن الوليد ابا الوليد فتى العشيرة
حامي الحقيقة ماجدا يسمو الى طلب الوتيرة
قد كان غيثا في السنين وجعفرا غدقا وميرة
فما عاب عليها رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك و(قال شيئا)
تاريخ المناحة على الامام الحسين عليه السلام
اول مجلس للنياحة
اثبت العلامة البحاثة الثبت الشيخ الاميني (قدس الله نفسه) في كتابه: (سيرتنا وسنتنا، سيرة نبينا وسنته) تحت عنوان (مأتم الميلاد)! وذكر سلسلة السند الى الامام علي بن الحسين عليه السلام: قال (حدثتني اسماء بنت عميس قالت: قبلت جدتك فاطمة بالحسن والحسين ، فلما ولد الحسن …. الحديث بطوله الى قولها : فلما ولد الحسين فجاءني النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا اسماء هاتي ابني ، فدفعته اليه في خرقة بيضاء ، فأذن في اذنه اليمنى ، واقام في اليسرى ، ثم وضعه في حجره وبكى.
قالت اسماء: فقلت فداك ابي وامي مم بكائك؟
قال: على ابني هذا.
قلت: انه ولد الساعة .
قال: يا اسماء تقتله الفئة الباغية ، لا انالهم الله شفاعتي .
ثم قال: يا اسماء لا تخبري فاطمة بهذا، فانها قريبة عهد بولادته. الحديث).
وذكر بعد تعليقه المتين على هذا الحديث في ص32 حديثا آخر وذكر له عدة اسانيد تنتهي بأم الفضل بنت الحارث مرضعة الحسين عليه السلام: (انها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت: يا رسول الله اني رايت حلما منكرا الليلة. قال: وما هو: قالت: انه شديد. وما هو؟ قالت: رايت كان قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله رايت خيرا، تلد فاطمة – ان شاء الله- غلاما فيكون في حجرك فولدت فاطمة الحسين، فكان في حجري كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله فدخلت يوما الى رسول الله صلى الله عليه وآله فوضعته في حجره، ثم حانت مني التفاته فاذا عينا رسول الله صلى الله عليه وآله تهريقان من الدموع! قال: فقلت يا نبي الله ، بابي انت وامي مالك؟ قال: اتاني جبرئيل عليه السلام فاخبرني ان امتي ستقتل ابني هذا. فقلت هذا؟ فقال نعم. واتاني بتربة من تربته حمراء).
ثم ذكر –قدس الله روحه- ماتم راس السنة والسنتين والمآتم التي اجراها الرسول الكريمى على سبطه وريحانته الحبيب في بيوت امهات المؤمنين رضوان الله على الطيبات منهن بتفاصيلها واسنادها، في دار امير المؤمنين عليه السلام وفي مجمع الصحابة. نكتفي بالحديثنين السابقين ، ومن شاء التثبيت والزيادة فليراجع المصدر المذكور.
هذه بعض المناحات التي اقامها رسول اله على سبطه وريحانته الحسين وهو طفل صغير.
واما ابوه المفجوع امير المؤمنين عليه السلام فقد ذكر العلامة الاميني – حشره الله مع سادته الميامين – رواية عن مسند احمد بن حنبل (3/60، 61ط3) وانهى سلسلة السند الى عد الله بن نجي عن ابيه: انه سار مع علي – رضي الله عنه – فلما جاؤوا نينوى ، وهو منطلق الى صفين ، فنادى علي : اصبر ابا عبد الله ! اصبر ابا عبد الله بشط الفرات! قلت: وماذا؟ قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم وعيناه تفيضان . قلت: يا نبي الله، أغضبك احد؟ ما شأن عيناك تفيضان ؟ قال: بل قام من عندي جبرئيل قبل، فحدثني ان الحسين يقتل بشط الفرات. قال : فقال: هل لك ان اشهدك من تربته؟ قال: قلت: نعم فمد يده فقبض قبضة من تراب فاعطانيها ، فلم املك عيني ان فاضتا).
ثم ذكر لنفس الموقف هذه روايات بالفاظ مختلفة ، وذكر اسانيدها والحديث عن رواتها، احسن الله له الجزاء.
اول شعر انشد في رثاء الحسين
نقل الخطيب البارع المجاهد صديقنا وحبيبنا السيد جواد شبر في كتابه (ادب الطف) عن السيد الامين في (اعيان الشيعة) انه قال: وينبغي ان يكون اول من رثاه الحسين عليه السلام سليمان بن قتة العدوي التيمي مولى بني تيم بن مرة ، بدمشق سنة 136هـ. وكان منقطعا الى بني هاشم. فانه مر بكربلاء بعد قتل الحسين عليه السلام بثلاث، فنظر الى مصارعهم وأتكأ على قوس له عربية وانشأ يقول:
مررت على ابيات ال محمد فلم ارها امثالها يوم حلت
الم تر ان الشمس اضحت مريضة لقتل حسين والبلاد اقشعرت
وكانوا رجاء ثم اضحوا رزية لقد عظمت تلك الرزايا وجلت
وتسألنا قيس نعطي فقيرها وتقتلنا قيس اذا النعل زلت
وعند غني قطرة من دمائنا سنطلبها يوما بها حيث حلت
فلا يبعد الله الديار واهلها وان اصبحت منهم برغم تخلت
وان قتيل الطف من آل هاشم اذل رقاب المسلمين فذلت
وقد اعولت تبكي السماء لفقده وانجمنا ناحت عليه وصلت
ومن شعره ايضا المقطوعة التي يقولفي اولها:
يا عين جودي بعبرة وعويل واندبي ان ندبت آل الرسول
ونقل السيد (شبر) عن السيد الامين، وسبط ابن الجوزي عن السدي والطريحي في المنتخب ان اول شعر رثي به الحسين عليه السلام هو قول عقبة بن عمرو السهمي بقوله:
مررت على قبر الحسين بكربلا ففاض عليه مندموعي غريزها
وبكيت من بعد الحسين عصائبا اطافت به من جانبيه قبورها
اذا العين قرت في الحياة وانتم تخافون في الدنيا فأظلمنورها
سلام على اهل القبور بكربلا وقل لها مني سلام يزورها
سلام بآصال العشي وبالضحى تؤديه نكباء الرياح ومورها
ولا برح الوفاد زوار قبره يفوح عليهم مسكها وعبيرها
ونقل السيد المقرم (رضوان الله عليه) عن الاغاني ان الرباب زوجة الحسين وقعت على راس الحسين عليه السلام تقبله في مجلس عبيد الله بن زياد وقالت:
ان الذي كان نورا يستضاء به بكربلاء قتيل غير مدفون
سبط النبي جزاك الله صالحا عنا وجنبت خسران الموازين
قد كنت لي جبلا صعبا الوذ به وكنت تصحبنا بالرحم والدين
من لليتمامى ومن للسائلين ومن يعني ويأوى اليه كل مسكين
والله لا ابتغي صهرا بصهركم حتى اغيب بين الماء والطين
ثم توالى الشعراء يندبون ابا عبد الله الحسين عليه السلام والبررة من اهل بيته واصحابه عليه السلام منذ ذلك اليوم الى يومنا هذا، والى ما شاء الله ، مما لا يأتي عليه حصر ولا عد، وستبقى هذه الندب والاناشيد مستمرة الى يوم يبعثون حزناواسى على فاجعة الطف، وما جرت على اهل البيت عليه السلام من مآس ومصائب لا ينساها شيعتهم ومحبوهم مدى الدهر.
المجالس العزائية
قامت النياحة على سيد الشهداء واهل بيته واصحابه منذ الليلة الحادية عشر من المحرم، حيث نصبت بنات الوحي والرسالة النياحة على اعزتهن،هذه تنادي واابتاه وتلك تنادي وااخاه، واخرى تنادي واالداه، وهن يبكين بدموع ساخنة وقلوب محترقة ، ثم في الكوفة والشام ،ثم كانت المناحة الكبرى يوم الاربعين في كربلاء.
وهكذا توالت مجالس النياحة والعزاء على سيد الشهداء عليه السلام لدى الشيعة منذ شهادته حتى يومنا هذا .واذا كانت هذه المجالس تقام خفية في العصر الاموي ، فقد كانت تقام علنا في العصر العباسي ، ولاسيما ايام البويهيين الذي عرفوا بولائهم وتشيعهم لأهل البيت عليه السلام وقد ذكر لنا ياقوت الحموي فقال: قال ابن عبد الرحيم : حدثني الخالع قال: كنت مع والدي في سنة ست واربعين وثلاثمائة وانا صبي في مجلس الكبوذي في المسجد الذي بين الرواقين والصاغة، وهو غاص بالناس ،واذا رجل قد وافى وعليه مرقعة ،وفي يده سطيحة وركوة، ومعه عكاز، وهو شعث، فسلم على الجماعة بصوت يرفعه ، ثم قال: انا رسول فاطمة الزهراء (صلوات الله عليه) فقالوا: مرحبا بك واهلا. فقال: اتعرفون لي احمد المرزوق التائح. فقالواهاهو جالس فقال: رأيت مولاتنا عليه السلام في النوم فقال: إمض الى بغداد واطلبه، وقل له: نح على ابني بشعرناشئ الذي يقول فيه:
بني احمد قلبي لكم يتقطع بمثل مصابي فيكم ليس يسمع
وكان الناشئ حاضرا فلطم لطماعظيما على وجهه ،وتبعه المزوق والناس كلهم،وكان اشد الناس في ذلك الناشئ ثم المزوق، ثم ناحوابهذه القصيدة في ذلك اليوم الى ان صلى الناس الظهر وتقوض المجلس وجهدوا بالرجل ان يقبل شيئا منهم فقال: لا والله، لو اعطيت الدنيا ما اخذتها ، فانني لاارى ان اكون رسول مولاتي عليه السلام ثم آخذ ذلك عوضا .وانصرف ولم يقبل شيئا.
وقال ايضا : حدثني الخالع قال: اجتزت بالناشئ يوما وهوجالس في السراجين فقال لي : قد عملت قصيدة وقد طلبت واريد ان تكتبها بخطك حتى اخرجها فقلت: امضي في حاجة واعود، وقصدت المكان الذي اردته فحملتني عيني فرأيت في منامي ابا القاسم الشطرنحي النائح فقال لي: احب ان تقوم فتكتب قصيدة الناشئ البائية،فانا قد نحنا بها البارحة بالمشهد. وكان هذا الرجل قد توفي وعائد من الزيارة فقمت ورجعت اليه وقلت: هات المبائية حتى اكتبها فقال: من اين عملت انها بائية وما ذكرت بها احد؟ فحدثه بالمنام فبكى وقال: لاشك ان الوقت قد دنا فكتبتها فكان اولها:
رجائي بعيد والممات قريب ويخطئ ظني والمنون تصيب
جرى في القصتين ذكر نائحين في عصر واحد وهما: احمد المزوق النائح، وابو القاسم الشطرنجي النائح، ووصفهما بالنائح يدل على ان هذا اللقب كان من الالقاب الشائعة لمن يتلبس بالنياحة آنذاك وقبل ذلك. ولو لم تكن مجالس العزاء والنياحة قائمة لم يشتهر احد بالنائح، وهو (الرادود) في عصرنا وكذلك تدل القصة على اللطم الجماعي على سيد الشهداء عليه السلام كما ذكرت الرواية ذلك فانتبه.
ونقل ابو المؤيد اخطب خوارزم الموفق بن احمد الخوارزمي في مقتله 3/145 – 147 أبياتا للناشئ بن وصيف وقال بما يناح به في المأتم.
اما شجاك يا سكن قتل الحسين والحسن
ظمأت من فرط الحزن وكل وقد ناهل
يقول يا قوم ابي علي البر الابي
وفاطم بنت النبي امي وعنى سائلوا
حتى اتى عليها وهي خمسة عشر بيتا رباعيا. وهي من مجزوء الرجز الذي يلائم ايقاعه اللطم، مما يدل على ان اللطم كان شائعا آنذاك مع ترديد الاشعار، وترى ان الخوارزمي وصف الابيات بقوله: مما يناح به في المأتم. وكلمة النائح (كما رأينا) كانت تطلق على من نطلق عليه اليوم كلمة (رادود) وهذا يشير الى ان اللطم والمناحات كانت من الامور الشائعة ،وذلك حزنا على سيد الشهداء والبررة من اهل بيته الشهداء عليه السلام.
المواكب العزائية
ان اول موكب قصد سيد الشهداء عليه السلام في الحقيقة والواقع هو موكب مخدرات الرسالة يوم عاشوراء ، عندما عاد جواد الامام الحسين عليه السلام الى المخيم خاليا من راكبه (فلما نظرت النساء الى الجواد مخزيا ، والسرج عليه ملويا ، خرجن من الخدور ناشرات الشعور على الخدود لاطمات ، وللوجوه سافرات، وبالعويل داعيات وبعد العز مذللات والى مصرع الحسين مبادرات).
واول موكب قصد قبر سيد الشهداء عليه السلام موكبان متزامنان: موكب بدأ مسيرته من دمشق الى كربلاء ، وهو موكب سبايا آل محمد صلى الله عليه وآله، وموكب بدأ مسيرته من المدينة نحو كربلاء، وهو موكب جابر بن عبد الله الانصاري (رضوان الله عليه).
اما موكب اسرى ال محمد صلى الله عليه وآله عندما رجعوا من الشام متوجهين الى المدينة (فلما وصلوا العراق قالوا للدليل: مر بنا على طريق كربلاء ، فوصلوا الى مصرع الحسين عليه السلام فوجدوا صابربن عبد الله الانصاري وجماعة من بني هاشم ورجالا من آل رسول الله ، وقد وردوا لزيارة قبر الحسين، فتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم، واقاموا في كربلاء ينوحون على الحسين ثلاثة ايام).
واما موكب جابر بن عبد الله الانصاري، قال عطية العوفي : خرجت مع جابر بن عبد الله الانصاري زائرين قبر الحسين بن علي بن ابي طالب عليه السلام فلما وردنا كربلاء دنا جابر من شاطئ الفرات فاغتسل، ثم اتزر بأزار وارتدى بآخر، ثم فتح صرة فيها سعد فنثرها على بدنه ، ثم لم يخط خطوة الا ذكرالله تعالى، حتى اذا دنا من القبر قال: ألمسنيه ، فالمسته فخر مغشيا عليه فرششت عليه شيئا من الماء، فلما افاق قال : يا حسين ثلاثا، ثم قال: لا يجيب حبيبه، ثم قال: وانى لك بالجواب، وقد شحطت اوداجك على اثباجك وفرق بين بدنك ورأسك، فأشهد انك ابن خاتم النبيين وابن سيد المؤمنين وابن حليف التقوى وسليل الهدى، وخامس اصحاب الكساء، وابن سيد النقباء، وابن فاطمة سيد النساء، ومالك لا تكون هكذا ، وقد غذتك كف سيد المرسلين، وربيت في حجر المتقين، ورضعت من ثدي الايمان، وفطمت بالاسلام فطبت حيا او مكيتا ، غير ان قلوب المؤمنين غير طيبة لفرقك، ولا شاكة في الخيرة لك، فعليك سلام الله ورضوانه، واشهد انك مضيت على ما مضى عليه اخوك يحيى بن زكريا ثم جال بصره حول القبر وقال: السلام عليكم ايتها الارواح التي حلت بفناء الحسين، واناخت برحله، واشهد انكم اقمت الصلاة واتيتم الزكاة، وامرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ،وجاهدتم الملحدين، وعبدتم الله حتى اتاكم اليقين، والذي بعث محمدا بالحق نبيا لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.
قال عطيه: فقلت له يا جابر: كيف؟ ولم نهبط واديا، ولم نعل جبلا، ولم نضرب بسيف، والقوم قد فرق بين رؤسهم وابدانهم واوتمت اولادهم وارملت ازواجهم؟!
فقال: يا عطية سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من احب قوما حشر معهم ومن عمل قوم اشرك في عملهم، والذي بعث محمدا بالحق نبيا ان نيتي ونية اصحابي على ما مضى عليه الحسين عليه السلام واصحابه…)
والموكب الثالث بل الرابع، هو موكب دخول الاسرى الى المدينة، وعندما قاربوها خرج الناس يهرعون، ولم تبق مخدرة الا برزت تدعو بالويل والثبور، وضجت المدينة بالبكاء فلم ير باك اكثر من ذلك اليوم، ودخل الموكب المدينة وزينب (ام كلثوم) تنادي:
مدينة جدنا لا تقبلينا فبالحسرات والاحزان جينا
خرجنا منك بالاهلين جمعا رجعنا لا رجال ولا بنينا
ثم اخذت بعضادتي الى المسجد، وصاحت يا جداه ، اني ناعية اليك اخي الحسين، وصاحت سكينة: يا جداه اليك المشتكى مما جرى علينا فو الله ما رأيت اقسى من يزيد، ولا رأيت كافرا ولا مشركا شرا منه ولا اجفا ولا اغلظ، فقد كان يقرع ثغر ابي بمخصرته وهو يقول: كيف رأيت الضرب يا حسين.
ثم تتالت المواكب الى قبر الحسين عليه السلام كموكب التوابين بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي، وغيرهم، وظلت تترى ان منع الكافر المتهتك عدو اهل البيت عليه السلام وشيعتهم صدام المواكب والمجالس كافة، ولكن هيهات هيهات ، ان هذا العهد معهود كما قالت عقيلة بني هاشم للامام علي بن الحسين عليه السلام وهي تسليه وتصبره يوم الحادي عشر عندما مروا على مصارع الشهداء:
(مالي ارك تجود بنفسك يا بقية جدي وابي واخوتي، فوالله ان هذا العهد من الله الى جدك وابيك، ولقد اخذ الله ميثاق اناس لا تعرفهم فراعنة هذه الارض ، وهم معروفون في اهل السموات، انهم يجمعون هذه الاعضاء المقطعة، والجسوم المضرجة فيوارونها ، وينصبون بهذا الطف علما لقبر ابيك سيد الشهداء لا يدرس اثره، ولا يمحى رسمه، على كرور الليالي والايام، وليجتهد ائمة الكفر واشياع الضلال في محموه وتطميسه، فلا يزداد اثره الا علوا).
تاريخ المواكب العزائية في النجف الاشرف
لم أر (لحد الان) في المصادر التاريخية ما ينص على بداية المواكب العزائية في النجف الاشرف ، ولا شك في وجود المجالس العزائية النجف منذ ان تمصرت هذه المدينة المقدسة، وذلك للوعة الفاجعة التي تشعر بها هذه الفرقة الناجية، ولا شك ان المواكب العزائية والمسيرات التابعة لها متأخرة عن المجالس الثابتة، والقدر المتيقن الذي يمكن القطع به هو ان المواكب هذه كانت قائمة قبل قرن فما فوق ، وهذه القبلية قد تمتد الى قرون، والله اعلم.
وان اول رادود سمعت باسمه هو المرحوم (الشيخ عبد علي أمين) من اسرة نجفية معروفة بألبو (امين) نسبة الى جدهم الاعلى ، وكان على جانب عظيم من الزهد والتقوى والاخلاص لأهل البيت عليه السلام وكنت اسمع عنه وانا طفل ، لم ادرك عصره، وانه كان يرتدي السواد منذ بداية شهر محرم حتى نهاية صفر حزنا على سيد الشهداء ابي عبد الله الحسين عليه السلام ، واذ اخذنا بداية قيامه بهذه المهمة بنظر الاعتبار تفوق المدة المائة بعقدين او اكثر.
وقد يذهب بنا الاعتقاد الى ما قبل ذلك اذا ما نظرنا الى فتوى حبر الامة واديبها وفقيهها وخطيبها العلامة المجاهد الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (قدس الله روحه) عندما استفتاه جماعة من اهل البصرة حول مشروعة المواكب واللطم والتطبير والتشبيه وامثال ذلك، فقال (رضوان الله عليه):
( سألتم (اعزكم الله) في عدة برقيات وردت الينا منكم ومراسلات تتابعت لدينا عنكم، عن المواكب الحسينية (زاد الله شرفها) وعما يجري فيها من ضرب الرؤوس والصدور بالسلاسل والسيوف والادماء وقرع الطوس والطبول والتشبيه والخروج في الشوارع والازقة بالهيئات المتعارفة ، والكيفيات المتداولة في اكثر بلاد الشيعة (نصرها الله) سيما العتبات المقدسة دام شرفها).
ولعمري ما كنت احسب ان هذا الموضوع يعرض على مطرقة النقد والتشكيك، او يطرح في منطقة السؤال والترديد، كيف وقد مرت عليه الدهور والاحقاب، وخضعت له اساطين الملة واعلام الشريعة في جميع الاعصار والادوار، ما نكره منكر ، ولا اعترضه معترض، وهو بمرأى منهم ومسمع ومنتدى ومجمع، وقد كان يجري في القرن الماضي ازمة السيد بحر العلوم وكاشف الغطاء (قدس الله اسرارهم) من التشبيهات التي كانت تسمى (الدائرة) ما هو اوسع واشيع، واكثروا واوفر ، مما يجري في العصور ، وفضلا عن سكوت اولئك الاساطين كانوا يمدونهم بالمساعدة، ويعضدونهم بالحضور والمشاهدة).
واما في العصرالذي عشته منذ نعومة اظفاري حتى اخراجي من العراق، فقد بلغت المواكب اوج مسيرتها في ثبات العقيدة والتشدد في المحافظة عليها، واذكر اسماء المواكب التي عاصرتها في النجف الاشرف وهي كما يلي:
أ- المواكب الرئيسية:
وهي اربعة، كل منها يخص محلة من محلات المدينة القديمة وهي:
أ- مواكب المشراق:
وهو اوسع موكب في النجف الاشرف، ومقره في عشرة محرم الأولى في مسجد الشيخ الطوسي شتاء، وفي شارع الشيخ الطوسي خارج المسجد صيفا. واما في الوفيات يجتمعون في سوق المشراق مقابل مدخل سوق القصابين ، ثم يسرون نحو الشرق نحو (عكد السيف) فينحدرون نحو الجنوب حتى يدخلون السوق الكبير، ثم يسيرون نحو الغرب حتى يدخلون الصحن الشريف. وتخرج المواكب جميعا ثلاث ليال من آخر العشرة الاولى من المحرم الى الصحن الشريف، حيث تجري مراسم العزاء هناك.
يدير هذا الموكب رؤساء المحلة، وهم آل الحاج سعد الحاج راضي، وقد ادركت منهم (بعد البلوغ) الحاج مغيص بن الحاج سعد، والحاج راضي الحاج سعد، والحاج محمود الحاج سعد، والحاج حسن الحاج سعد، والحاج عبود الحاج سعد، والحاج علوان الحاج سعد، والحاج برهان الحاج سعد على التوالي ويأتي بعدهم في الاولية (آل ظاهر) وشاهدت منهم الحاج عبد الظاهر واخاه الحاج حسين الظاهر واولاده ناصر وميري وعبد الواحد وكاظم واولاد هؤلاء ثم ألبو (جبك) وكان منهم المرحوم الحاج عزيز جبك هو المدير واللولب المحرك لهذا الموكب الكبير، وكان يقوم ايضا حتى بتصليح الاضوية والهوادج التي كانوا يحملونها ليلا مع المواكب للانارة والزينة واظهار الشوكة، والاقتدار ، وقد تخلى في اخريات حياته ،وسكن الكوفة، وحل محله السيد عباس شبر، اخو الخطيب الشهير السيد حسن شبر الذي اشتهر بالجني.
واما الرواديد (النائحون) الذين توالوا على منبر هذا الموكب الشريف ممن سمعت بهم او رأيتهم هم على التوالي المرحومون: عبد علي امين، خليل الشماع، عبد الامير ترجمان، عبد علي كيشوان، فاضل الرادود، حمزة الصغير الكربلائي ، السيد طالب صلوات (الاشبال)، ثم عاد فاضل مرة ثانية بعد خروجه من السجن.
واما شعراؤهم المرحوم عبود غفلة، والشيخ عبد الله الروازق، والشيخ ياسين الكوفي، السيد عبد الحسين الشرع، عبد الامير المرشد، عبد الحسين ابو شبع، وعباس الترجمان.
وبعد اخراجي من العراق سنة 1391هـ كان لا يزال مع موكب المشراق حتى … وجاءوا بـ(عبد الرضا الرادود) ولازمهم هذا حتى منع المجرم الطاغية صدام التكريتي جميع المواكب والنياحة على أهل البيت عليه السلام.
3- موكب البراق:
وهو يلي موكب المشراق من حيث السعة والاهمية ، وقد كان التنافس بينهما جاريا دائما، ومقره في محرم الحرام في دار المرحوم السيد مهدي الرشدي في وسط محلة البراق عند نهاية زقاق مسجد الهندي.
واما في مناسبات الوفيات ،فيجتمعون في سوق المسابك، ثم ينحدرون الى السوق الكبير، فيقفون بين سوق القصابين وسوق الصاغة، حيث يلطمون على الصدور ، وغالبا ما يجري التنافس بينهم وبين موكب المشراق ، لأن اهل البراق يخرجون قبل اهل المشراق ويقفون حيث قلت، فيسدون طريق اهل المشراق الى الصحن الشريف، فيضطر الاخيرون الى الوقوف في السوق الكبير ، عند مدخل (عكد السيوف) يقف الطرفان للطم على الصدور ، ويقرأ كل رادود القصيدة اللطمية حتى ينتهي ،ثم يسير الموكبان الى الصحن الشريف، حيث يقرأ الرادود قصيدة الجلوس، وهي قصيدة تتعرض بموضوعها للمشاكل الانية في المجتمع ، او التنديد بظلم الحكومة ، واستبداد الظالمين، وقد تتعرض لأحوال صاحب المناسبة وذكر مناقبه وفضائله، والقصائد مهما كانت مقدماتها تعرض في النهاية على صاحب الذكرى والشهادة.
وكان رؤساء هذا الموكب هم رؤساء عشائر محلة البراق: آل جريو، وآل دوش، وكان يرأس الاولى السيد حسين جريو، وكان رجلا طويل القامة، والثانية الحاج سعد بن عباس علي دوش، وكان الحاج سعد بالاضافة الى طوله ضخم الجسم مهيبا، وتولى الاولى بعد ابيه السيد ناصر السيد حسين جريو، والثانية كاظم الحاج سعد بعد ابيه.
وكان الذي يتولى ادارة الموكب المرحوم السيد الفاضل مهدي الرشدي، وبعد وفاته كانم نجله المرحوم السيد صالح الرشدي.
واما الرواديد (النائحون) فهم على التوالي (ممن رأيتهم) الشيخ محمد حسين الشماع، وعبد الامير الترجمان، ثم جابر المعروف بجبوري الرادود، وكان رادود البراق حتى وفاته، وكان له صوت عال، ليس بالجهوري رقيق النبرة، وبعد وفاته رقى المنبرلعدة سنوات السيد صادق المرعشي الموجود حاليا (27-شعبان-1411هـ) في الاهواز، ثم جاءوا بابن اخت المرحوم جبوري وهو عبد الرضا الرادود بن شاكر البغدادي، وكان ابوه صاحب مقهى في كراج النجف الى كربلاء، وكان عبد الرضا في بداية الامر يتابعني ويسأني عن طرائق القصائد وكيفية الاداء، ثم سمحت له بأن يصعد المنبر قبلي في مناسبة بعض المواليد في سوق المشراق، واول منبر رقاه خارج النجف كان في الهندية (طويريج) في موكب (البو عبنر) ثم جاء به اهل البراق الى موكبهم وفاءا منهم لخاله المرحوم جبوري، والوفاء مع الرادود ميزة يمتاز بها اهل البراق دون غيرهم، وظل هذا رادودهم حتى بعد اخراجي من العراق حيث جاءوا بالسيد محمد الرادود بن المرحوم السيد فليح الرادود الخياط الكوفي، والسيد محمد خريج مدرسة عبد الرضا الرادود، يقلده بالصوت والطور والحركات، حتى ليشتبه بينهما احيانا في التسجيل، وحتى سمي بالبدل وظل هذا حتى منع حزب البعث المجرم الحاكم المواكب كافة.
وكان المرحوم الشيخ محمد حسين الشماع يقرأ اشعار الشاعر الأمي الفذ المرحوم عبود غفلة، الذي لم يشق له غبار في اللهجة العراقية الدارجة، واما المرحوم اخي عبد الامير ترجمان فكان يقرأ للمرحوم عبود غفلة، والمرحوم الشيخ عبد الله الروازق، والمرحوم الشيخ منسي البناء، واما المرحوم جبوري كان يقرأ شعر المرحوم الشيخ ياسين الكوفي، وهكذا ابن اخته عبد الرضا، وبعد وفاة الشيخ ياسين التزم بالشاعر صديقنا المرحوم الشيخ عبد الامير المرشد الذي كان وفيا معه، الا ان عبد الرضا لم يقدر له هذا الوفاء، فانتكس عليه في اثناء عشرة محرم الاولى ، وتحول الى المرحوم الشيخ عبد الحسين ابو شبع، الذي كان بينه وبين المرشد منافسة غير ودية، وفي حينها قصدني المرحوم المرشد الى الخالص، حيث محل قراءتي وشكا لي جفاء عبد الرضا القاسي.
واما السيد محمد السيد فليح فكان ملتزما بالمرشد حتى توفي رحمه الله، فشب ولده مهدي المرشد بالشعر وأخذ يزود السيد محمد، وكان يتزود بالشعر الفصيح من الشاب الشهيد المرحوم على الرماحي، الذي اعدمه البعثيون الحاقدون.
3- موكب الحويش:
وهو ثالث المواكب من حيث الأهمية، يرأس محلة الحويش آل السيد سلمان: السيد عبود السيد كاظم، السيد عطية، السيد نوري، وآخرهم السيد حسين السيد سلمان، نبسة الى جدهم الأعلى السيد سلمان. وكذلك آل شربة ويعرفون بألبو شربة، وهم الذين كانوا يشرفون على موكب الحويش، لأنهم أصحاب أعمال وسوق وكسب، وأما آل السيد سلمان فكانوا مترفين وأكثر ثقافة، وآخر من تولى رئاسة الموكب هو المرحوم موسى شربة، وكان رجلاً طويل القامة جريئاً رزن الخطوات في مشيه وتفكيره مرضياً لدى الجميع. وكان المرحوم الحاج علي أصغر التركي هو الذي يدير الموكب ويتولى شؤونه.
وأما مقر الموكب هذا فكان في مسجد يقع في زقاق ضيق لا أتذكر اسمه قرب (الفضوة الكبيرة) هذا في شهر المحرم، وأما في المناسبات كانوا يتجمعون في آخر سوق الحويش قرب مسجد الشيخ الأنصاري – قدس الله نفسه الزكية – المعروف بمسجد الترك ، فيسيرون في سوق الحويش نحو الصحن الشريف، ويدخلونه من باب القبلة، وأقدم رادود لهم عرفته أخي عبد الأمير الترجمان، وبعده صديقنا المرحوم الشيخ جاسم بن عبد الرضا البهبهاني، ثم تلاه المرحوم جودي الرادود الكوفي الذي سيأتي ذكره في موكب الخبازين، ثم المرحوم السيد كاظم القابجي وبعد وفاته عبد الرضا الرادود، ثم السيد محمد فليح.
وأما الشعراء فهم: المرحوم عبود غفلة، عبد الرزاق الروازق، الشيخ منسي البناء، الشيخ ابراهيم الخليل أبو شبع، الشيخ ياسين الكوفي ، الشيخ عبد الحسين أبو شبع والشيخ عبد الأمير المرشد.
4- موكب العمارة:
ومقره في درعية الحاج عطية ألبو كلل، وكان الزعيم الوحيد بلا منازع لهذه المحلة المرحوم الحاج عطية أبو كلل، بل زعيم مدينة النجف وأحد القادة المعروفين بالشهامة والنجدة والبسالة، ثم تولى ابنه الحاج كردي الرئاسة، وكان للمرحوم الحاج عطية أربعة أولاد بأسماء: تركي ، كردي ، عجمي، هندي، وقد رأيت الثلاثة الأواخر، وكان الحاج كردي يدير الموكب.
وفي محلة العمارة تقطن بعض العشائر ما عدا (البو كلل) وهم: ألبو عامر، ألبو الشكري ، آل العكايشي، وغيرهم.
وأقدم رادود رأيته لهذا الموكب هو المرحوم السيد هاشم الرادود ابن السيد حمادي، وكان يعتم بالعمامة السوداء ، يرسل لحيته متديناً ، وكان يتاجر الحبوب ، صحبته وهو شيخ كبير عندما كنت أقرأ في مدينة الناصرية في موكب المرحوم الحاج صبيح والشبيبة، وكان هو – رحمة الله عليه – يقرأ لموكب النجارين، وكنت آنذاك في أواسط العقد الثاني من عمري، أنظم له أناشيد المسيرة التي تعرف بالمستهلات. فعرفته ديناً يمتاز بالبساطة وسلامة الضمير.
وكان يتزود بشعر المرحوم عبود غفله، والمرحوم الشيخ ابراهيم الخليل أبو شبع، وأخيراً الشيخ عبد الحسين أبو شبع.
وموكب العمارة هذا هو الموكب الوحيد في النجف الأشرف الذي لا يخلع على الرادود، وبعد السيد هاشم، كان المرحوم محسن علي بيج (علي بيك) وكان شاعراً أيضاً، ولكنه أصيب أخيراً …. أدواري، وتركته في النجف حياص على …. وقرأ لهم السيد حسين النجار ثلاث سنوات.
ويمتاز موكب العمارة – الذي يخرج في محرم فقط، ويدخل من باب العمارة الى الصحن الشريف – عن سائر المواكب بأنه يسير على شكل كراديس (يهوسون) يهتفون بالأهازيج الشعبية المثيرة، وكل كردوس يختص بعشيرة من عشائر المحلة، ويحملون المشاعل النفطية التي لها رؤوس متعددة، ولكل عشيرة مشعل، فيدخلون الصحن الشريف بمشاعلهم وأهازيجهم بدون تنظيم، فيأخذون مأخذاً من الناس الذين ينتظرون قدومهم بفارغ الصبر.
5- موكب الجديدة:
وهو موكب مستجد أسس بعد تأسيس المحلة الجديدة خارج السور الجنوبي لمدينة النجف الأشرف القديمة، وكان قد سميت عند حدوثها باسم (محلة الأمير غازي) ، وكذلك سمي الموكب بهذا الاسم، وإنما ذكرته قبل سائر المواكب الفرعية، لأنه يختص بمحلة من محلات النجف.
اشتهر هذا الموكب وعرف باسم مؤسسه المرحوم (عبايه) أبي فاضل، وكان حمالاً في بداية أمره، ولع بخدمة أهل البيت عليهم السلام لا أعرف عن بيته ونسبه أكثر مما ذكرت رغم اتصالي الوثيق المديد به، وكان مقر هذا الموكب في مسجد صغير يدعى (مسجد حلبوص) بأسم مؤسسة المرحوم الحاج …. حلبوص، الذي يقع في المحلة الجديدة في الشارع السادس، ثم انتقل الى جامع الجوهرجي في شارع المدينة، الذي بناه المرحوم الحاج صالح الجوهرجي ، وبنى الى جانبه حمام الكوثر على الطرز الحديث، وجعل مقبرته في الجانب الشرقي من الجامع – رحمة الله عليه – وكان عقيماً.
ولا بأس أن نذكر بعض مميزات المرحوم الحاج (عبايه) كان جسيماً خسن العضلات والمفاصل، أسمر اللون، أمياً، يقتصر في لباسه على (الدشداشة) وهي ثوب طويل، يتمنطق عليه بحبل، حافياً حاسراً، ثم تطور قليلاً ، فلبس نعلاً، ووضع على رأسه قلنسوة بسيطة تعرف في العراق بـ(عركجين) وهي كلمة فارسية مركبة من (عرق جين) أي جامع العرق.
وكان يعيش على الزهد والقناعة، وارتدى يوماً العقال واليشماغ لأول مرة في عمره، فأخذ صورة له.
وكان يرقى المنبر أحياناً في ذكريات مواليد الأئمة الطاهرين عليهم السلام يحمل معه طابوقة (آجره) للتفكه باعتبارها ورقة القصيدة، ثم يردد على الحاضرين أناشيد الولادة التي يحفضها على ظهر ذاكرته، وكان موكبه من المواكب المحبوبة في النجف والمحتشدة، لأنه يتجمع فيه الجماهير البسطاء الفقراء من كل محلة، ولا سيما مجلة (الجديدة)، وكان هذا الموكب مخصص بالوفيات ومناسبة المواليد فقط، يستثنى منها عشرة المحرم الأولى.
وأما الذين قرأوا لهذا الموكب، فهم: المرحوم جاسم عبد الرضا البهبهاني، وحسين النجار، وقرأت له في أدوار مختلفة، والسيد حسين النجار، وعبد الرضا الرادود، وموسى شيحان وهو ابن أخت عبايه، ثم السيد محمد بن السيد فليح الرادود.
وأما الشعراء الذين زودوا هذا الموكب بأشعارهم، فهم: الشيخ ابراهيم أبو شبع، الشيخ عبد الأمير المرشد، الشيخ ياسين الكوفي، الشيخ منسي البناء، الشيخ عبد الحسين أبو شبع وعباس الترجمان.
6- موكب الشوشترية:
ويطلق عليه موكب الششترليه، ومقره في حسينية الششترلية في زقاق (عكد السلام) في محلة العمارة، وهذه النسبة الى مدينة (شوشتر) الايرانية، والقائمون بهذا الموكب هم الشوشتريون، الذين عرفوا في عصر الاحتلال العثماني للعراق بـ(الششترليين) ، وبقيت هذه اللهجة التركية عليهم وعلى موكبهم. ويدخل الصحن الشريف من باب العمارة.
وعندما يذكر موكب الشوشترلية يتداعى بذكره اسم المرحوم الشيخ عبد المحمد الرادود، الشاعر الفاضل التي الزاهد المتفاني في ولاء أهل البيت عليهم السلام فقد كان هذا الرجل رغم شيخوخته إلا رادوداً وشاعراً لهذا الموكب فحسب، بل مديراً ومنظماً وقائماً بكل أعماله، وحتى أنه كان يقوم أحياناً بكنس الحسينية وتنظيفها بنفسه. وكان ملتزماً بكل المناسبات (الوفيات والمواليد) وحتى وفيات العلماء الأعلام، يخرج من الحسينية بعدد قليل من الشيوخ والأطفال حتى يدخل الصحن الشريف. ويمتاز موكبه بعدم الرياء والتدخل الذي لا يمت للمناسبة بصلة، ويجتمع عليه أهل الدين الذين يرغبون في المثوبة من الله تعالى فحسب.
كان لا تأخذه في الله لومة لائم، عرفته وسمعته منذ نعومة أظفاري، وكان مورد حبي واحترامي وتقديري، رأيته يوم وفاة آية الله الفقيد الزاهد الشيخ جعفر البديري على حافة وادي السلام – وهو المقبرة الواسعة التي تحن إليها قلوب الشيعة وكثير من المسلمين الآخرين للدفن فيها رزقني الله ذلك – رأيته واقفاً ومعه طفلان يحملان علمين أسودين، وكما قلت كان يحتفي بالمناسبات وبوفيات العلماء إجلالاً لهم، وأداء لحقهم، وهو يريد أن يكون موكباً ليشترك في التشييع، وكان جثمان المرحوم البديري لما يصل بعد، وهو يلتفت يميناً وشمالاً يريد من يشترك معه، فجئت إليه، وسلمت عليه، وعرفت قصده، وكنت مورد عطفه ولطفه، فسألني عن أبي – رحمه الله – فأجبته، ثم قلت له : هل أعددت المستهلات (وهي نشيد المسيرة)؟ قال: بلى. قلت له : ردد أنت الأول، واجعل أحد الطفلين يحمل العلم معك، وأنا أردد الثاني وثاني الطفلين معي، فكان كذلك، حتى اجتمع معنا جماعة ، وتشكل الموكب، وجاء الجثمان الطاهر، فالتحقنا بالمشيعين.
وأتذكر أني التقيت به في باب الصحن الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام من جهة القبلة وهو خارج وأنا أريد التشرف بالدخول يوم أول رجب، وهو يوم زيارة الإمام سيد الشهداء عليه السلام المخصوصة فسلمت عليه ، وكنت عازماً بعد الزيارة مباشرة على السفر الى سامراء مع موكب النجفيين لزيارة الامام أبي الحسن علي بن محمد الهادي عليه السلام وإقامة الموكب وحفل العزاء بمناسبة ذكرى شهادته عليه السلام في اليوم الثالث من رجب، فالتفت إلي وقال: سمعت أنك تتحدى…. في قصائدك وأحاديثك هناك. قلت: بلى. قال: اقتصر على مديح الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ففيه إظهار لنقائصهما وتخلفهما في الفضل.
ولكنني لم أقتصر على ذلك، وكنت كلما سنحت لي الفرصة في هذه المناسبة أتحدى وأبدي بعض نقائصهما التي لا تعد ولا تحصى، وكان الناس يتقبلون ذلك مني، لأنني كنت أدعم قولي بالأحاديث والأدلة القاطعة.
ويقيم موكب الشوشترلية وهم الشوشتريون الساكنون في النجف منذ أجيال مع العلم بأن المرحوم الشيخ عبد المحمد لم يكن شوشترياً بل كان رحمه الله بهبهانياً. ولا يخفى بأن حسينية الشوشترلية تحتوي على مكتبة ضخمة تضم مخطوطات كثيرة.
ومنذ أن كنت في النجف كان المرحوم الشيخ عبد المحمد الرادود وهو رادود الموكب وشاعرهم، وبعد وفاته رحمه الله تعالى التزم موكبهم الأخ المتدين الشيخ علي بن الشيخ طاهر الخباز، القاطن الآن في مدينة مشهد المقدسة. ثم أغلق هذا الموكب على يد النظام العفلقي المجرم.
7- موكب البهبهانية:
مقر هذا الموكب مسجد الهندي، ويدخل الصحن الشريف من باب القبلة . كان يقوم به أهالي مدينة بهبهان الإيرانية الساكنون في النجف الأشرف منذ أجيال خلت، وكان يتزعم هذا الموكب ثلة من كبار البهبهانيين، منهم الحاج محسن البهبهاني العطار، والحاج عباس شفيع (الحلو) الخباز، وهو أبو فاضل شفيع رئيس موكب (شهداء طريق كربلاء) في دولت آباد طهران حالياً، وكان هذا الأخير في دور موكب البهبهانية الأخيرة لأن هذا الموكب كان قد تعطل على أثر معركة حدثت بين البهبهانية وجماعة أخرى كان يقدمهم المرحوم الحاج علي جاون الخباز، فصوب المرحوم شكري (أبو اللبن) البهبهاني بندقيته ليضرب الحاج علي جاون فأخطأ وأصاب عم جاسم الخياط ( ) وكان الحاج علي جاون هو الآخر أطلق الرصاص أيضاً، فأشيع أن القاتل هو الحاج علي جاون، وظلت الاشاعة ولم يكشف عن القاتل الحقيقي، وانتهت الفتنة بغلق موكب البهبهانية، وبعد سنوات عاد الموكب، واختار المرحوم مهدي الحنفي المعروف بـ(مهودي) أخ المرحوم السيد هادي الحنفي من أمه رادوداً لهم، والمرحوم الشيخ عبد الأمير الى أن التزم موكبهم الشيخ حسين النجار الرادود بن المرحوم أسطه علي النجار النقاش، وكان المرحوم أسطه علي ينقش النقوش البديعة على الزجاج والمرايا، وقد قرأت لهم ذات سنة بصورة عرضية عندما بح صوت الشيخ حسين، فطلب مني أن أتولى الموكب مكانه فلبيته، وأنجزت له ذلك، وأتممت العشرة، وأعطيته جميع النقود التي قدمها لي أعضاء الموكب، ولم آخذ منها شيئاً، ورفضت طلبهم مني بالاستمرار في القراءة. ولم يستمر هذا الموكب حتى اقتصر مجلسه على التعزية والخطابة فقط.
8- موكب السقائين:
وكان يعرف بموكب السقائين العجم في مقابل موكب السقائين العرب، الذين كانوا يعقدون مجلسهم في مسجد الحمالين وهو مسجد صغير يقع مقابل المسجد الهندي، وكان المرحوم الشيخ صادق القندرجي الأنصاري رادوداً لهم، ولم يدم موكبهم طويلاً.
والسقاؤون العرب هم الذين كانوا يحملون الماء من جدول الأمير غازي الواقع غرب مدينة النجف في المنحدر المعروف بـ(البرجه) أي البركة، يحملون الماء في القرب على الحمير ويدورون في أزقة النجف، ويبعونها على أصحاب البيوت. وأتذكر جيداً – وقد رأيت ذلك بعيني – أن هؤلاء السقائين كانوا يقحمون حميرهم – أحياناً – في مجرى النهر، فيبول الحمار ويروث داخل الماء، وكان هناك رجال مختصون بملء القرب، يقفون بعيدين عن شاطئ الجدول المنحدر تدريجياً ، وهو المورد الخاص بهؤلاء السقائين ، فيملؤون القرب من هذا الماء الملوث الذي كان يؤدي لإصابة الأهالي بالأمراض المختلفة كالملاريا والبلهارزيا وغيرهما. ومن الأمراض التي كانت شائعة في النجف آنذاك ، وقضت على المئات مرض السل الساري.
وكان هؤلاء السقاؤون العرب يدورون في الأزقة وينادون بصوت عالي (ماي فروع) أي ماء فرات، وكان في كل بيت حوض يملأ من الآبار العميقة الموجودة في كل بيت بالماء الأجاج المالح، لغسل الصحون والملابس والوضوء، وخمرة كبيرة تسمى بـ(الحب) تملأ بالماء العذب للطبخ والشرب.
وأما السقاؤون العجم فهم من الإيرانيين القاطنين في مدينة النجف الأشرف، ولهم مسجد صغير يقع في محلة المشراق بامتداد مدخل الزقاق المعروف بـ(عكد البو البهاش) لأن أسرة آل البهاش كانوا يسكنون في هذا الزقاق، الذي تقوضت دوره، وأصبحت شارعاً يحيط بالصحن الحيدري الشريف، وذهب أكثر من نصف هذا المسجد في الشارع، وهو نفسه الآن يقع في شارع الإمام زين العابدين عليه السلام.
ولهؤلاء السقاؤون هم الذين كانوا يحملون الجرار ويقفون في الصحن الشريف يبيعون الماء على الزائرين والوافدين، وكان الكثير من الأهالي أو الزائرين يعطي السقاء ثمن ماء الجرة بكامله ليسقى العطاشى مجاناً. وكان هذا بدوره ينادي : (ماء سبيل يا عطشان) أي: الماء المجاني لأبناء السبيل العطاشى، وكان بعض السقائين هؤلاء قد اتخذ له مقراً في الصحن الشريف ، قد نصب فيه عشرات الحبوب – جمع حب – لخزن الماء وتصفيته وتبريده تحت سقيفة من الحصر والبواري القذرة التي كانت تشوه منظر الصحن الرائع، وربما كانت هذه السقائف تشغل ربع شاحة الصحن، ولكنها أزيلت – والحمد لله – بعد أن قام الرجل الإيراني المحسن الحاج معين التجار الطهراني بمد أنابيب الماء من الكوفة الى النجف، ونصب خزان كبير للماء، وتخلص أهالي النجف الأشرف من تلك الحالة المزرية.
وعلى كل حال فموكب السقائين الذي كان يطلق عليه (موكب السقاية) قد أسسه هؤلاء السقاؤون ، وكانوا في بادئ الأمر أناشيدهم الشجية وأشعارهم باللغة الفارسية وكان من شعرائهم المرحوم والدي (علي الترجمان) الذي كان يعرف أنذاك بـ(ميرزا علي خان) والمرحوم السيد محمد أبو المدار المتخلص بـ(مجرم) وكان في بيته مدار (رحى كبيرة) لطحن بعض التوابل والحوامض، وقد رأيته، وكان يديرها بغل والسيد محمد هذا هو أبو السيد ما شاء الله أبو المدار.
وأقدم رادود رأيته وسمعته في هذا الموكب هو المرحوم ميرزا أغا الجايجي، والسيد محمد السقاء النوراني، وهو أبو المرحوم السيد هاشم النجار والسيد حسين النجار الرادود (النوراني)، ثم الحاج حسن داشي عم المرحوم عبد الرسول أبو التايرات بن المرحوم عباس داشي. ثم تغيرت اللغة، فتحولت الأناشيد والأشعار من الفارسية الى العربية، فكان الشيخ حسين النجار الذي مر ذكره في موكب البهبهانية وكان يتلعثم ويتمتم عند التكلم، ولكنه كان سليم الانشاد على المنبر، له صوت رخيم، ويحسن الانشاد بالألحان المختلفة، وكان يتلقى أشعاره من المرحوم الشيخ جعفر الطرفي البزاز، ثم رقى منبرهم المرحوم السيد كاظم القابجي، وهو من خدمة الصحن العلوي الشريف، صاحب الصوت الشجي الذي يأخذ بمجامع القلوب ، وكان حسن الأداء يجيد النغم إجادة تامة محبوباً لدى الجميع، وكان يتلقى أشعاره من الشاعر الأديب الفذ المرحوم الشيخ عبد الحسين أبو شبع الذي تسنم زعامة الشعر الشعبي: (باللهجة الدارجة العراقية) . وبعد وفاة المرحوم السيد كاظم التزم هذا الموكب الشيخ وطن الرادود الذي عرف بتقليده لصوت المرحوم السيد كاظم وحركاته وسكناته، فكان خير خلف لخير سلف.
وكان هذا الموكب بشاعره ورادوده مجمعاً لعشاق الأدب والولاء، وقد سمي أخيراً بهيئة أبي الفضل العباس عليه السلام لأنه قام بالسقاية يوم السابع من المحرم، وحمل الماء الى مخيم الإمام الحسين عليه السلام ثم عاد يوم العاشر حيث استشهد.
وأقدم رئيس لهذا الموكب عرفته وشاهدته هو المرحوم مرزه همتكار المعروف بـ(مرزه أبو الآش) لأنه كان يبيع الآش صباحاً، وكان رجلاً زاهداً في ملبسه يرتدي الثوب الطويل (الدشداشة)، يلبس النعل حاسر الرأس يمسك العصا بيده، وكان بديناً، ثم تولى بعده ولده (ما شاء الله القهوجي) ، وأولاده.
وكان هذا الموكب يحمل في مقدمة مسيرته خزاناً جميلاً قد زين بالمرايا والنقوش، يوضع فيه الماء المصفى المعطر بماء الورد المبرد بالثلج، مزود بأقداح صغيرة ليشرب الناس منه مجاناً.
وقد أغلق هذا الموكب مع سائر المواكب التي أغلقها عنفاً صدام العفلقي التكريتي السفاك.
9- موكب الشيخ جمال:
موكب كان يقوم بإدارته مؤسسه الشيخ جمال المجبر، وهو أديب شاعر دين، ينظم الشعر باللغتين: العربية والفارسية، صبيح الوجه تعلوه ابتسامة حلوة، وكان يمتهن التجبير وتضميد الجروح والقروح، وكان من تلامذة المرحوم والدي في الأدب. ويساعده في إدارة الموكب بعض الكسبة الأخيار مثل المرحوم السيد علي (أرزان فروش) ، وكان أخي عبد الأمير يقرأ له، ثم تلاه السيد هاشم الرادود المذكور آنفاً في موضوع موكب العمارة، ثم الحاج حسين النجفي أبو توفيق الذي كان يعرف آنذاك بـ(حسين أفيون) الذي انتقل الى بغداد وأصبح من تجار سوق (الشورجة) وعرف بحسين النجفي واشتهر بكنيته (أبو توفيق) ، وكان يردد أشعار أستاذنا المرحوم الشيخ ابراهيم الخليل أبو شبع، وكنت أزوده ببعض قصائدي أحياناً، وبعده التزم الموكب المرحوم السيد كاظم القابجي حتى وفاته، وكان شاعره المرحوم الشيخ عبد الحسين أبو شبع ثم تلاه السيد حسين النجار الموجود حالياً في طهران، وبعده التزم الشيخ شفيع علي رفيع موكب الشيخ جمال ، وكان يردد أشعار الشيخ ناجي الجبان، الموجود حالياً في مدينة قم المقدسة، وقد أضر، وتلاه السيد علي القابجي، ولم أتذكر شاعره، حتى أغلق الموكب أيضاً.
10- موكب الخبازين:
مقر هذا الموكب في مسجد الصاغة في بداية سوق الصاغة مما يلي سوق المشراق.
أسسه الخبازون من أصحاب محلات الخبازة في النجف ، وكانوا كلهم أيرانيين في الأصل، وكان يرأس هذا الموكب (آل قنبر) منهم المرحوم الحاج عبد الرضا قنبر، ثم الحاج فتح الله الخباز، وأولاده الآن في أصفهان، والحاج علي نقي الخباز، ثم رجب قنبر، وأقدم من رأيت لهم من الرواديد ابن عمتي ابراهيم الصائغ، والمرحوم محمد أمين الخياط، وجودي الرادود الذي مر ذكره في موكب الحويش، وكان يزوده بالشعر المرحوم الشيخ ياسين الكوفي. وتوفي جودي بمرض السل. وبعده التزموني وأخذوا قولاً مني لأقرأ لهم بالوفيات وعاشوراء ، وعندما جئت الليلة الأولى من المحرم الى مجلسهم اعتذروا مني ، وقالوا إن جماعتنا لم يوافقوا على صغرك، ونخشى أن يضحك الناس علينا وقرأ لهم المرحوم موسى أمين الخياط وقرأ لهم عبد الله رحيم الرادود النعلجي ردحاً من الزمن بشعر المرحوم الشيخ ابراهيم الخليل أبو شبع، ثم السيد حسين النجار، ولا أتذكر من الذي قرأ لهم بعده، لأنهم اختصروا مجلسهم على التعزية في الآونة الأخيرة.
11- موكب أهل السلابات:
وهم الدلالون الذين كانوا يبيعون الملابس والأثاث المستعملة وملابس الأموات، وكانوا يلتزمون بإقامة اللطم والنياحة في ليالي الجمع في الصحن العلوي الشريف تحت الساباط غرب الروضة المقدسة، وكان رادودهم ابن عمتي المرحوم ابراهيم الصائغ، وكان من العرفاء أديباً جهوري الصوت بعيد المدى، وكان يردد أشعار المرحوم (حميدان مدينه) وهو من الشعراء المبرزين آنذاك.
12- موكب حسن أبو الكهرباء:
وكان المرحوم حسن هذا مسؤول عن تصليح وإدارة كهرباء الصحن الشريف، يقعد مجلسه كل ليلة جمعة في غرفة مقبر السيد كاظم اليزدي الطباطبائي المرجع الديني الشهير، صاحب العروة الوثقى – قدس الله نفسه الزكية – وأعتقد أن جميع الرواديد الذين أدركوا مجلسه خدموا منبره، لأنه لم يلتزم أحداً منهم، فكان من يحضره يرقى المنبر، وإنما أطلقنا اسم الموكب على هذين المجلسين لأنهما كانا يلتزمان باللطم والنياحة اللتين هما من خصائص المواكب والمسيرات العزائية.
13- موكب شباب شارع التجار:
وشارع التجار هذا كان معروفاً بـ(عكد الحمير) وعكد بمعنى زقاق، وكلا التسميتين متناسبتان، فشارع التجار، وهو الذي يتفرع من السوق الكبير، من المدخل المقابل لسوق الصاغة، وكان هذا المدخل يعرف بسوق القوازي، جمع قوزي، فرخ النعاج التي تذبح وهو في بطنها، أو قد ولد تواً، وكان هذا المدخل يضم بعض القصابين المختصين ببيعها مذبوحة وبيع أكباد الغنم وقلوبها ورئاتها التي تعرف عندهم بمجموعها بـ(المعلاق)، وسمي بعد ذلك بسوق التنكجية – بعدما انحسر عنه القصابون – لأنه كان يضم عدداً من المحلات التي كانت تحترف بها صنعة بعض الآلات التي تصنع من الصفائح الحديدية الرقيقة كالفوانيس والعلب وأشباه ذلك، ثم ينحدر السوق نحو الجنوب ، فينكسر نحو الشرق، فيشكل زاوية قائمة تقريباً ، حتى يصل قرب باب الصحن من جهة القبلة، وكان هذا السوق مختصاً بمحلات تجار الجملة وهذه المحلات تتكون من خانات كبيرة أو داخل الخانات، وهم باعة العطاريات، وكان كل خان إما أن يكون خاصاً بتاجر واحد أو بعدد من التجار، ولذا سمي بشارع التجار.
وأما تسميته بعكد الحمير، فالتسمية لها صلة بمهمة التجار، لأنهم يحملون البضائع على البغال والحمير الى المدن والقرى المجاورة كالكوفة والعباسية والحيرة وأبي صخير والشامية والمشخاب (الفيصلية) وغيرها. وكان أصحاب الحمير والبغال يوقفون دوابهم في هذا الشارع الضيق استعداداً لحمل البضائع ونقلها، وأتذكر أن هذه الحيوانات كانت تقف صفاً متجهة نحو الحائط وأعجازها نحو المارة، وهي بالعشرات، بحيث يضيق الطريق على العابرين، وعلى هذا الأساس سمي بعكد الحمير، وبسوق الحمير تارة، وقد ذهب ثلثه في شارع الإمام الصادق عليه السلام وذهب قسم منه في شارع الرسول صلى الله عليه وآله.
وهناك في هذا السوق الذي كان فيه محل أخي عبد الأمير قبل أن ينتقل الى كربلاء مضطراً لأمور سياسية يطول شرحها، وربما شرحناها في ترجمته القادمة، ومحل أبن عمتي حسن ترجمان المكنى بأبي قاسم، وكان اسكافياً ومديراً لفرقة شعبية للتمثيل، وكان أمياً، مسجد صغير عند طاق الحاج عبد الرسول شريف المعروف بمسجد شريف، أسس فيه ابن عمتي أبو قاسم موكباً لغلمان السوق هذا، وهم قلة بعد أن رأى إلحاحهم ، وبعد أن خرجوا صدفة في وفاة الرسول الأعظم بصورة مرتجلة، وطلبوا مني، وأنا آنذاك في أول العقد الثاني من عمري أن أقرأ لهم في الصحن الشريف، فوافقتهم للرغبة الملحة عندي، فخرجنا أطفالاً متحمسين، ودخلنا الصحن الشريف من باب القبلة، ووقفنا مقابل أيوان مقبرة المرحوم الفقيه الأديب السيد محمد سعيد الحبوبي – رضوان الله عليه – وصعدت على رتاج البئر الموجودة هناك لعدم وجود منبر بالقرب منا، فقرأت لهم قصيدة في رثاء الرسول الكريم صلى الله عليه وآله حيث المناسبة، للمرحوم الشيخ عبد الله الروازق، وهي من روائعه ، أتذكر مطلعها:
لون ما حكمة الباري تحتم عليك الكدر
جا فداك الوصي بنفسه ومات يا سيد البشر
فنالت استحسان الحشد الحاضر، وكان أول موقف لي في الصحن الشريف وأول تشجيع جماهيري لاقيته، وأظن أن ذلك كان سنة 1358 هـ فالاستحسان والتشجيع الواسع أدى الى التزام الأطفال وتأسيس موكب باسم (موكب شارع التجار) الذي كان يطلق عليه عند العامة موكب شباب عكد الحمير. وفي ذكرى استشهاد الإمام الحسن العسكري عليه السلام أي بعد عشرة أيام، خرجت مسيرة الموكب المؤسس ودخلت السوق الكبير ثم الصحن الشريف، ونصبوا لي منجنيقاً عالياً أمام الايوان الذهبي بين البابين الشرقيين، فلاقيت من الاستحسان والتشجيع من قبل الناس المحتشدين ولا سيما رجال العلم والدين ما لم يلاقه أحد من أمثالي في السن، وسرى هذا التشجيع الى الموكب نفسه بحيث كان الرجال يشتركون في مسيرتنا، والناس يترقبون دخول موكبنا الى الصحن، وكان لابن عمتي المرحوم أبي قاسم الفضل الكبير في إدارة الموكب وتنظيمه، ودام هذا الموكب ثلاث سنوات، ثم التزمت في مدينة الرجيبة، ولها قصة طريفة تصفح عنها، واقتصر الموكب بعدها على التعزية فقط.
وكنت أتزود بالقصائد من المرحوم الشيخ ياسين الكوفي، لأنه هو الذي اقترح علي بأن يزودني بقصائد جديدة ينظمها للمناسبة الطارئة فالتزمته بهذا الشرط . وكانت آنذاك بينه وبين فاضل الرادود برودة وتقاطع، فدخل بعض الناس المعنيين بهذه الأمور فأصلحوا بينهما، واشترط عليه فاضل بألا يزود غيره بالشعر الجديد، وكان آنذاك المرحوم جبوري الرادود، والمرحوم جودي الرادود، وأنا ثالثهم نتزود بشعر المرحوم الشيخ ياسين الكوفي، وكان متولياً لحرم الشهيد هانئ بن عروة – قدس الله روحه الزكية – وأخذت له مائة سيجارة (مزبن) على عادتي، ورأيت الشيخ جودي والشيخ جبوري جالسين. فما إن تفوهت بطلبي إلا وقال المرحوم جودي ساخراً: الشيخ بعد لا يعطي شعراً جديداً لأحد، لأن فاضل الرادود لا يرضى!!
فأشار لي الشيخ ياسين بأن أجيء إليه غداً، فغادرته وعدت إليه غداة غد ومعي السيجاير، فقال لي: هذه المجاميع الشعرية ، اختر منها ما يعجبك… فقلت له: إن الشرط بيننا – كما اقترحت أنت – أن تنظم لي دائماً شعراً جديداً. فرفض فغادرته الى دار المرحوم الشيخ ابراهيم الخليل أبو شبع، وكان آنذاك يسكن الكوفة، وهو من فحول الشعراء الشعبيين الذين أوقفوا نفوسهم في خدمة أهل البيت عليهم السلام وسبق أني كنت قد زرته عدة مرات مع أخي وأستاذي وحبيبي المرحوم عبد الأمير ترجمان، وأقرأني أمامه، فاستقبلني ، وآنذاك كنت لم أبلغ الحلم، فقدمت له السيجار، فنظم لي قصيدة على بحر (الشطراوي) وكان الشهر شهر رمضان المبارك والمناسبة مناسبة ذكرى استشهاد أعظم مظلوم في الاسلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وكان مطلع القصيدة:
تفصمت عروة الوثقة تفصمت
جبريل ناده بالسمه
وبقيت أستمد الشعر منه – رحمه الله – الى أن أخذت أنظم القصائد وألقيها وأنسبها إليه، وكان يطلب مني أن أنسب شعري لنفسي، ولكنني كنت أخجل من ذلك، لأنني بذلك العمر، حتى حدثت قضايا عديدة يطول شرحها دفعتني ودفعني بها الى أن أنسب شعري الى نفسي.
14- موكب شباب علي بن الحسين عليه السلام:
أسسه المرحوم الشهيد السيد عبد الوهاب الطالقاني، وهو شاب متحمس في ولاء أهل البيت عليهم السلام اعتقله العفالقة المجرمون مدداً مختلفة، ثم قتلوه بعد التعذيب، والتحق بقوافل الشهداء – رحمه الله – قام هو وجماعة من الشباب المؤمنين فأسسوا هذا الموكب، أذكر منهم صادق الخاقاني.
15- موكب السيد هادي الحنفي:
وهو أخو المرحوم السيد مهدي الحنفي (مهودي) رادود البهبهانية، وكان هذا السيد المؤمن الهادئ الكاسب متفانياً في ولاء أهل البيت عليهم السلام وموكبه يختص بمناسبة واحدة، وهي ذكرى استشهاد سفير الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل عليه السلام يذهب بموكبه من النجف الى الكوفة، ويقيم هناك اللطم والنياحة على هذا الشهيد المظلوم سلام الله عليه. وكان أخوه من أمه يتولى الترديد له بأشعار المرحوم الشيخ عبد الأمير المرشد، وكنت أقرأ له أحياناً.
16- موكب الجمهور الحسيني:
وكان يتزعم هذا الموكب مؤسسه المرحوم الحاج عباس سدر، الرجل المصارع المجاهد البطل المؤمن، صاحب المواقف البطولية، المشهورة في التفاني والدفاع عن حق أهل البيت عليهم السلام وكنا آنذاك نتداول الحديث عن عدم تنظيم المواكب، فصممنا على تأسيس موكب منظم يكون أسوة وقدوة لسائر المواكب من حيث التنظيم والمحتوى، فتأسس وسمي باسم (موكب الجمهور الحسيني) وكان من أعضائه بالاضافة الى المرحوم الحاج عباس سدر: الحاج عيسى مهدي الصائغ، والحاج عباس حسون، والحاج عبد الرسول محي الدين، وآخرون لا أتذكرهم، وكنت قد قررت في الجلسة الأولى بأنني لا ألتزم القراءة لهم، لأنني كنت ملتزماً أهالي (عليبات) في مدينة الخالص (دلتاوه) القديمة، لذا كان أول رادود لهم هو الحاج عبد الرسول محي الدين، وبعده ابن ابن عمتي عدنان الطيار بن محسن بن حسن بن علي أكبر التبريزي، وإنما جاءته نسبة الطيار من أخواله.
وكان الحاج عبد الرسول يقرأ شعر المرحوم الشيخ هادي القصاب، وكان هو شاعراً أيضاً، وأما عدنان الطيار فكان ملتزماً بالشاعر الشيخ علي التلال القصاب، وهو ابن حسين علي يوسف القصاب. وكان آنذاك شاباً مؤمناً أديباً متيقضاً يعالج المشاكل الاجتماعية والسياسية.
وكان مقر هذا الموكب في مسجد المهدي الذي شيده المرحوم الحاج مهدي البهبهاني، الرجل المحسن الذي قام بتشييد واسع في الصحن الزينبي الشريف خارج دمشق، ومات ودفن في مدخل الصحن في غرفة عن يمين الداخل، رحمه الله تعالى.
17- موكب شباب القصابين:
مقره في مسجد سوق المسابك، ويقوم به ثلة من الشبان القصابين وباعة اللحوم، وكان رادودهم المرحوم موسى قاو، وكان من خدمة الروضة الحيدرية، وكان يتزود بقصائدي، ولم يلبث هذا الموكب طويلاً ، وكان يعقد مجلسه في العشرة الثانية من المحرم فقط.
18- موكب الأفغانيين:
وكان يدعى بموكب البرابرة، وهذه الصفة كانت تطلق على الأفغانيين الساكنين في النجف الأشرف. والموكب هذا يقيمه الأفغان الساكنون في آخر محلة الجديدة في منطقة الصالحية، خلف الحديقة العامة التي كانت تعرف بحديقة الأمير غازي، وهم كثيرون يتزعمهم أحد السادة باسم السيد عوض العطار، وكانوا يتعصبون لموكب المشراق، لأنهم كانوا قبل انتقالهم الى الصالحية يسكنون في محلة المشراق بجانب السور القديم، وعندما هدم بعض المسؤولين سور النجف – مع الأسف الشديد – وهو من الآثار القديمة التي كان من الوجوب المحافظة عليه، هدمت دور هؤلاء فانتقلوا الى منطقة الصالحية، وهم أبطال أشداء أكثرهم يعيشون على القناعة ، وفيهم من رجال العلم أيضاً، كالشيخ محمد اسحاق الفياض أحد تلامذة المرجع الديني المحقق السيد أبي القاسم الخوئي – حفظه الله تعالى – وقد جمع تقريرات أستاذه في الأصول، وطبعت في النجف الأشرف في أربعة أجزاء باسم (محاضرات في أصول الفقه).
19- موكب سامراء:
مدينة سامراء من المدن العريقة التي يقطنها إخواننا السنيون، وتكاد تخلو من الشيعة إلا ما ندر من طلاب العلوم الدينية، وهي جالية صغيرة جداً لا تأتي بالحساب. وهي من العتبات المقدسة التي تضم جثمان إمامين همامين هما الإمام علي الهادي ونجله الإمام الحسن العسكري عليهما السلام.
وكانت العادة في النجف وفي بعض المناسبات الدينية أن تشكل سفرات خاصة للعتبات المقدسة: كربلاء والكاظمية وسامراء والمدائن حيث مرقد الصحابي الجليل سلمان الفارسي عليه السلام، ثم القاسم حيث مثوى القاسم بن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام والحمزة المعروف بالحمزة الغربي ، وهو من أحفاد أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين عليه السلام المدفون في مدينة المدحتية، وهي مشهورة باسم مشرفها (الحمزة) ثم العودة الى النجف الأشرف. وهذه السفرات كانت تعرف بـ(الدورة) ، فاشتركت في إحدى هذه الدورات التي تضم رجالاً ونساءً، وكانت الدورة هذه تتألف من ثلاث سيارات خسبية كبيرة تعرف عندنا بـ(اللوري) وكان أكثر الركاب نساء، وبدأت السفرة آخر يوم من شهر جمادي الثانية من النجف، فزرنا الإمام الحسين عليه السلام بالزيارة المخصوصة في أول يوم من رجب، ثم غادرنا كربلاء الى الكاظمية وبتنا ليلة واحدة، وتشرفنا بزيارة الإمامين الهمامين الكاظم وحفيده الجواد عليهما السلام فأخذنا طريقنا الى سامراء، وكان اليوم الثاني من شهر رجب، وقد صممت على القيام بمسيرة موكب في سامراء بمناسبة ذكرى استشهاد الإمام علي الهادي عليه السلام التي تصادف في اليوم الثالث من شهر رجب ، ولكننا كنا قليلين، لا نشكل موكباً لوحدنا، ومدينة سامراء مدينة مقدسة يسكنها أبناء السنة كما قلنا،… فكان الأول يأخذ بتلابيبي بشدة ولم يتركني إلا بعد العطاء، فيسلمني الى الثاني، ثم الى الثالث وهكذا. وهذا الأمر كان قبل مسيرة الموكب. وكان في سنة سبع وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية الشريفة. وقد استنجدت بالمرحوم آية الله الميرزا محمد الطهراني زعيم الحوزة العلمية الشيعية في سامراء في مدرسة الشيرازي، ليمدنا ببعض رجال العلم لنكون مسيرتنا ليلة الثالث من رجب ، فتقدم هؤلاء الرجال في جوقة أولى ، ثم شكلنا نحن (الكسبة) الثانية ، فسار الموكب بعد صلاتي المغرب والعشاء من مدرسة السيد الشيرازي نحو الصحن الشريف، وعند دخولنا أمطرت السماء علينا من جهة، ومن جهة أخرى كانت ساحة الصحن مليئة بالحديد والحصى والرمل ، وكان زعيم العراق الراحل المرحوم (الحاج عبد الواحد الحاج سكر) زعيم عشائر آل فتلة قد تبرع بتجديد ايوان الروضة العسكرية المقدسة، مما اضطرنا الى الدخول في الروضة المقدسة، فنصب لي منبر عند المدخل الثاني فارتقيت، وأخذ الحاضرون يلطمون على صدورهم المجردة من الثياب ، ورددت لهم قصيدة لطمية من بحر الرمل ويعرف عندنا بـ(الموشح) للمرحوم عبود غفلة ، وكانت ندبة للامام المنتظر – عجل الله فرجه – ومطلعها:
يمن عين الدين ليك أربيه
ليمته جفك يسل ماضيه
واهتاج الحاضرون باللطم والنياحة بحيث تأثر الخدمة وبعض الحاضرين من أهالي سامراء الكرام أيما تأثر، وأخذوا يحترموننا ولا يتعرضون لنا بسوء بعدها، وفي صبيحة اليوم الثالث من شهر رجب خرج الموكب بعزم أشد، ووقفنا في الصحن فوق الرمال أمام الايوان، ورددت على الحاضرين قصيدة جلوس أولاً ، وهي ما تسمى عندنا بـ(الكعدة) ثم جردوا صدورهم، ورددت قصيدة لطمية، وها هي الصورة تمثل هذا المشهد بالذات ويرى في الصورة المرحوم السيد عيسى الرواف الأعرجي أبو السيد حسين الأعرجي.
وفي السنة الثانية تشكلت لجنة خاصة لهذا الموكب. وقرب حلول المناسبة جاءني المرحوم الشيخ جاسم البهبهاني الرادود ، وقال : رأيت في المنام إمام العصر جعل الله فرجه وبيده سيف مجرد، وهو يقول لي : إذهب الى سامراء واقرأ لموكب النجفيين. فأنا أطلب منك أن تسمح لي بذلك، فقلت له: غرضي هو أن يسير الموكب الى سامراء وليقرأ هناك من يقرأه أنا أسمح لك، فاستمر الموكب لسنوات عديدة يقرأ له الشيخ جاسم عبد الرضا البهبهاني وشاعره المرحوم عبد الأمير المرشد.
وعندما حدثت ثورة الرابع عشر من تموز سنة 1958م واضطربت الأوضاع، وكان الموكب يخلع على الرادود في سامراء خلعة نقدية، وفي هذه السنة قال مسؤول الموكب الشيخ جاسم : ربما لا تحصل على شيء من النقود هذا العام. فترك الموكب، وكنت آنذاك ملتزماً موكب (أهالي الماطورات) في الكوفة، وهم أصحاب السفن التي كانت تمخر في نهر الفرات، ومقرها ناحية الكوفة آنذاك، تحمل البضائع من التمور والقمح والشعير من والى الكوفة، وكذلك موكب الشامية، فوصلت الكراج قاصداً السفر، استقبلني المرحوم السيد محمد السيد سعيد السيد سلمان من وجهاء آل السيد سلمان ، وكان يتزعم السواق القائمين بموكب سامراء فقال: شيخ عباس، هؤلاء تركونا هذا العام، لأننا لم نتعهد لهم بالنقود، وليس لنا غيرك ، فقلت له: أنا لا أتمكن من التخلي عنكم، ولكنني ملتزم لموكبين، فإن وجدتم هناك من يليق بموكب النجف الأشرف، ويسد لكم هذا الفراغ فبها، وإلا فأنا بخدمتكم. فشكرني ودعا لي ثم دعوته وانصرفت ، وقرأت لهم في سامراء في تلك السنة فما بعدها، وعاد الحق الى نصابه، الى أن أخرجوني من العراق قسراً. قاتلهم الله فأنى يؤفكون.
وكنت طيلة هذه السنوات أقرأ الشعر لنفسي إلا ما كان من ختام القصائد اللطمية ، فأختمها للمرحوم عبود غفلة.
وصعد موكب سامراء من بعدي عدنان الطيار بقصائد الشاعر الشيخ علي التلال، وكان يدير الموكب هذا في سنواته الأخيرة المرحوم الحاج عباس سدر أفضل إدارة رحمه الله وجزاه عن أهل البيت خير جزاء المحسنين، وبقي الموكب بعد إخراجي من العراق.
وكانت هذه المناسبة قد توسعت في سامراء ، فقد سارت المواكب بالاضافة الى موكب النجف الأشرف: موكب أهالي الماطورات من الكوفة ، وموكب الكوفة، وموكب الشامية، وموكب غماس ، وموكبان من بغداد، ولا أتذكر الباقين الآن…
وكانت لهذه المواكب آثارها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بين الطائفتين الشيعة والسنة ، فأخذ أهالي سامراء الكرام يستقبلون الزائرين ولا سيما في هذه المناسبة برحابة صدر، ثم أخذوا يسيرون بموكب الى كربلاء بمناسبة أربعين الإمام الحسين عليه السلام.
وإليك بعض الصور التي التقطت بهذه المناسبة الكريمة:
والجالسون من اليمين: السيد عبد الزهراء الخطيب الغريفي البهبهاني، والسيد محمد الساعاتي الهاشمي، والسيد عبد الحسين ذي الرئاستين رئيس الحوزة العلمية في سامراء ، والسيد علي الهاشمي (بلور فروش) ، وعباس الترجمان.
والواقفون من اليمين: الحاج راشد، وحميد دوش، وشاب من آل علو لا أذكر اسمه، والحاج مهدي رزوقي، والمحامي محمد رضا السيد سلمان، ومهدي أبو سنون، والسيد محمد السيد سعيد السيد سلمان، والحاج عبودي علو، والحاج عبود سعد، والحاج محمد علي حلبوص، وعباس….، وحسون دعيبل.
والتقطت الصورة على سطح مدرسة السيد الشيرازي يوم 3 رجب 1381هـ. وكان للمرحوم السيد عبد الحسين ذي الرئاستين الأيادي البيضاء والمساعي المشكورة والأعمال الجليلة التي قام بها في هذه المدينة المقدسة.
20- موكب عاشوراء والأربعين:
وكان يسير ليلة عاشوراء من النجف الى كربلاء ، فيقيم العزاء ليل نهار في الحسينية في كربلاء، وكان المرحوم السيد عبد الرزاق المقرم الخطيب والمؤلف يقرأ المقتل ، وكذلك بمناسبة الأربعين الحسيني.
وكان الموكب يخرج بصورة فريدة مهيبة يتقدمه العلماء والفضلاء وكبار الشخصيات، يسوده الوقار، ويجلله الحزن والكآبة، ويسيره النظام. وكان الرادود في الأيام الأخيرة هو الشيخ وطن الرادود أبو ماجد، والشاعر المرحوم الشيخ عبد الحسين أبو شبع.
وكان يخرج من الحسينية الى صحن سيد الشهداء عليه السلام وبعد اللطم والنياحة يتوجه الى صحن أبي الفضل العباس عليه السلام إذ يتكرر اللطم والنياحة ، ويختم الموكب هناك.
أعادنا الله الى إقامة هذه الشعائر في تلك الرحاب المقدسة بعد إبادة…. العملاء أعداء الشعب وقتلته.
21- موكب شباب الخبازين:
وكانوا يعقدون مجلسهم في حسينية خليل، ورادودهم علي الشيخ طاهر ثم وطن الرادود.
موكب السلاسل:
وهذا نوع آخر من المواكب ، وهم الذين يحملون بأيديهم السلاسل الحديد فيضربون بها أكتافهم وظهورهم حزناً على سيد الشهداء عليه السلام وأسى وأسفاً على ما فاتهم من نصره، وهي مواكب معدودة ، يتقدمهم جوق يضربون الطبل والسنج، ورجل ينفخ في البوق (النفير)، فيبعث فيهم الحماس ويلهب مشاعرهم، وهم يضربون السلاسل على نغم قرع الطبول والبوق، ويمشون في صفين متقابلين ، يتوسطهم الرادود ، يردد لهم قصائد خاصة تلائم قرع الطبول، حتى يصلوا الى الصحن الشريف، ومن جملة هذه المواكب ، وعلى رأسها:
1- موكب الترك:
ومقرهم مسجد الشيخ الأنصاري – قدس الله نفسه – في محلة الحويش، المعروف بمسجد الترك، وتتقدمهم الفرقة الموسيقية : (الطبل والسنج والبوق) ثم يأتي صفان يحملون الشموع المسرجة، ويترنمون بهذا النشيد:
بكتك أملاك السما يا حسين
حزناً عليك بالدما يا حسين
وبين آونة وأخرى ينادون جميعا: يا حسين. على نغمة البوق والطبل والصنج الخاصة بهذا المقطع، التي تبعث في النفوس الخشوع وتوحي إليها بالحزن.
ثم يعقب هؤلاء صفان هم أصحاب السلاسل، ويختمون مسيرتهم في الصحن الشريف.
2- موكب السيد عباس أبو السبح:
ومقر هذا الموكب في مسجد كان مقابل باب الطوسي في محلة المشراق ، فتهدم وصار في الشارع المحيط بالصحن الشريف، والمتولي لهذا هو مؤسسة السيد عباس أبو السبح، عرف بهذا اللقب لأنه يبيع المسبحات ، وتولاه بعده ولده السيد مسلم.
3- موكب جابر الدروغي:
ومقره في مسجد صغير يقع في سوق المغازل ، بانتهاء سوق المسابك في محلة البراق . أسسه جابر الصدوق المشهور بجابر الدروغي.
4- موكب حسين عبد الشكرجي:
ويقع على مسافة قريبة من موكب جابر الدروغي في انتهاء الزقاق في مسجد صغير هناك ، عرف باسم مؤسسه.
مواكب التشبيه:
وأقصد بالتشبيه (التمثيل) المواكب التي كانت تمثل واقعة كربلاء وهي فرق تمثيلية، كما يلي:
1- فرقة السيد عباس أبو السبح:
وميدانها ومسرح تمثيلها هو الصحن الشريف، وكان الجانب الشمالي من الصحن يختص بجيش ابن سعد (الامويين) ، والجانب الجنوبي يختص بالجيش الحسيني ، ومقره مقابل مقبرة المرحوم الشيخ مشكور – قدس سره – حيث دفن المرحوم والدي أيضاً، وكانت الخيل تجول وتصول في الصحن وتدور حول الروضة المقدسة.
2- فرقة خليل كور:
ولقب خليل هذا (خادم الحسين) ولما كان ضريراً لقب بهذه الكلمة الفارسية (كور) أي أعمى، وكان قد أسس حسينية عرفت باسم حسينية خليل، كان يحتفل فيها ببعض المناسبات الدينية، وميدان تمثيله كان في (الميدان) مقابل باب السوق الكبير للمدينة القديمة ، وكان أخوه (جواد) يمثل الشمر بن ذي الجوشن قاتل الامام الحسين عليه السلام حتى عرف بجواد الشمر.
3- فرقة السقائين العجم:
مؤسسها (مرزه أبو الآش ) المذكور في موكب السقائين ، وكان مقرها في الصحراء خارج مدينة النجف الأشرف القديمة من جهة الجنوب، ثم انتقلت الى المنطقة التي كانت تعرف بالمناخة، لأنها كانت مناخاً للابل التي كانت تحمل البضائع والغلات من النجف الى البادية، والتي بنى المرحوم الحاج صالح الجوهرجي مسجده وحمامه (الكوثر) محاذياً لهذه المنطقة في غربها.
تركيب المواكب
وفي الختام لابد من ذكر الهيئة والتركيب والعناصر المقومة للمواكب. فكل موكب يتألف من اللجنة المؤسسة وهي المديرة، والجماهير، والرادود، والشاعر. ولابد للموكب من مسيرة وكيفية ونظام وشارات.
اللجنة المؤسسة:
تنبثق اللجنة المؤسسة بالاضافة الى دافعها الديني من التعصب المحلي غالباً، ففي كل محلة يندفع ثلة من النابهين بدافع التعصب للمحلة، وهو في الحقيقة تعصب للذات فيشكلون لجنة لإدارة الموكب، وهي النواة، لها قوانينها الخاصة، وبعض هذه اللجان تقوم بتقسيم المسؤوليات، فتضع لكل عضو مسؤولية خاصة، والبعض تعمل بشكل جماعي بدون تعيين. ثم تقرر اللجنة وتعين المكان، فتتخذ لها مقراً لإقامة المجالس، وتنتخب الرادود والشاعر.
الرادود والشاعر:
تلتزم اللجنة برادود يستمر معها. وأما الشاعر فيختلف تعيينه باختلاف الرواديد، فإنهم على طبقات ، فبعضهم لا يرددون إلا أشعارهم ، وكنت أمصل أهل النهج لوحدي، والبعض الآخر يقرأون لأنفسهم ولغيرهم أكثر من شعر أنفسهم، مثل فاضل الرادود، ومنهم من لم يتمكنوا من قرض الشعر رغم قدمهم في الممارسة وترديد الشعر مثل عبد الرضا الرادود، والشيخ جاسم البهبهاني، والسيد هاشم الرادود، وهم كثيرون، وكل رادود من هذه الطبقة يلتزم بشاعر خاص، يقوم بتزويده بالشعر طيلة السنة في جميع المناسبات في الأفراح والأتراح، وفي مثل هذه الحالة لابد للجنة الموكب من الانصياع لرغبة الرادود بشاعره والتزامه به.
وربما لا ترغب لجنة الموكب بالشاعر، فتشترط على الرادود بتغيير شاعره، فإذا كان من ذوي النفوس الضعيفة، ويرى في التزامه بالموكب هذا مغنماً مادياً أو معنوياً لنفسه، يخضع لإدارة لجنة المواكب، ويترك شاعره، ويلتزم بشاعر آخر تفرضه عليه اللجنة. ويعطي الرادود قسماً بسيطاً جداً من مغنمه المادي للشاعر.
خطيب الموكب:
في الحقيقة لا تهتم المواكب بالخطيب كأهميتها بالرادود، فيأتي الخطيب بالدرجة الثانية، ولا تلتزم بخطيب معين كالتزامها بالرادود، فربما كان لها خطيب لكل سنة، أو حتى لكل مناسبة، وهذا ناشئ عن قلة إدراك بعض القائمين بأمور المواكب، وقد تهبط درجة الخطيب عند بعضهم، فيتخذونه وسيلة للتجمع، والتمهيد لارتقاء الرادود،… وإلهاء المجلس وملء الفراغ من الوقت!!.
نظام الموكب:
يختلف نظام المواكب في النجف عن أنظمة سائر المدن العراقية، وربما تبعها بعض المدن كالسماوة والناصرية مثلاً وهذا ما واجهته بنفسي.
ففي كربلاء تبدأ المواكب مسيرتها من الليلة الأولى من المحرم، أما في النجف الأشرف، فتبدأ مسيرة المواكب من الليلة الثامنة الى الحادية عشرة غالباً ، إلا ما كان من موكب السقائين فتبدأ مسيرتهم من الليلة السابعة، وهي الليلة المختصة بأبي الفضل العباس عليه السلام ومقصد جميع المواكب الصحن الحيدري الشريف حيث ختامها.
وكانوا يخصصون كل ليلة بموضوع معين:
الليلة الأولى: يتحدث فيها الخطباء وينظم الشعراء قصائدهم حول الأهلة وما يختص بها وعن الأفلاك والنجوم وما شكال هذه المواضيع، ثم الحديث عن هلال شهر المحرم، وأن الأئمة الطاهرين كان يستولي عليهم الحزن والكآبة بمجرد رؤيته.
الليلة الثانية: تختص بخروج الإمام الحسين من المدينة الى مكة ثم الى العراق، وما حدث وجرى خلال ذلك.
الليلة الثالثة: تختص بحوادث المسير، وما جرى في الطريق، ووصول خبر استشهاد سفير الإمام الحسين عليه السلام وهو الشهيد السعيد مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة عليهما السلام. وكذلك ملاقاة الحر بن يزيد الرياحي وما جرى له معه.
الليلة الرابعة: يجري الحديث فيها عن وصول الإمام وظعنه الى أرض كربلاء، ونزوله فيها، ونصب مخيمه.
الليلة الخامسة: تخصص بأول شهداء النهضة أبي مسلم بن عقيل عليه السلام وذكر بطولاته، وما جرى عليه حتى استشهاده.
الليلة السادسة: وتختص بأنصار الإمام الحسين عليه السلام وذكر بطولاتهم واستقامتهم ووفائهم ونصحهم للاسلام والإمام.
الليلة السابعة: مختصة بقمر بن هاشم أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين عليه السلام ، وذكر مناقبه ومواقفه البطولية في الوفاء والجهاد والإيثار وشهادته.
الليلة الثامنة: يجري فيها الحديث عن القاسم بن الإمام الحسن السبط سلام الله عليهما.
الليلة التاسعة: تختص بشبيه رسول الله صلى الله عليه وآله خلقاً وخلقاً ومنطقاً علي الأكبر بن الإمام الحسين عليه السلام.
الليلة العاشرة: يذكر فيها الوداع، والإذن من قبل الإمام الحسين لأصحابه في الرحيل عنه، وحوادث تلك الليلة الرهيبة.
الليلة الحادية عشر: يكون الحديث عن الأحزان والأشجان، والحنين والأنين، والدموع والدماء ومناحة بنات الرسالة، ولوعة اليتامى والثكالى.
هذا نظام المواضيع التي تطرح في المواكب خلال العشرة الأولى من المحرم في النجف الأشرف وما يتبعها من المدن، إلا ما كان من مدينة كربلاء المقدسة التي لا تسايرها في أغلب الأمور، ولها أنظمة تختص بها.
أما في المناسبات الأخرى فموضوع كل مناسبة يتبع صاحب المناسبة، وما يتعلق به من مناقب ومصائب وحوادث.
حركة المواكب:
يبدأ الناس باللطم الخفيف تأهباً للخروج بعد تجريد الأبدان الى حد السرة من الملابس ، ليكون اللطم على الصدور المجردة، وذلك ما يسمى بـ(التنزيعة) ثم يلقي الرادود نشيد المسيرة على صورة مقاطع متساوية في الوزن والقافية واللحن، ويسمى بـ(المستهلات).
ينقسم الموكب حسب كثرته الى كراديس (جوقات) يختلف عددها، يتجاوبون بهذه الأناشيد ، تبدأ الجوقة الأولى بترديد النشيد، وعند انتهاء النشيد الأول تبدأ الثانية بنشيدها الثاني، وبعدها الثالثة ثم الرابعة وهكذا، وبهذا يتم نشيد الأولى مزامناً للثالثة والخامسة والسابعة مثلاً، وعند انتهاء هذه الجوقات تبدأ الثانية والرابعة والسادسة معاً، فيحصل التجاوب بين الجوقات، حتى يصلوا الى الصحن الشريف.
والجوقة إما أن تتألف من صفين متقابلين متصلين في البداية والنهاية، وإما أن تكون على شكل كردوس متجمهر يتجه نحو الإمام لا يرددون النشيد في حالة المشي، بل في حالة التوقف، حتى يصلوا الى الصحن بهذا النظام من المسير والتوقف وهم يلطمون صدورهم مجردة أو غير مجردة، فيرقى الرادود على المنبر ويقرأ قصيدة لطمية، ثم يتلوها بقصيدة القعدة، وفي كلتا القصيدتين يردد الجماهير سوية بحماس متزايد مطلع القصيدة.
وفي ليلة عاشوراء ، وهي ليلة الختام غالباً بخلع أعضاء الموكب وجماهيره على الرادود نقوداً، يبدأ أحد الأعضاء من الشيبة بتقديم كمية من النقود تعرف بـ(المنبرية) وهي تعين من قبل، ومن رأسمال الموكب نفسه. يقف هذا العضو في وسط الجماهير الجالسة ، ويخاطب الرادود قائلاً: شيخنا شيخ فلان، أو سيدنا، هذه منبرية الموكب الفلاني نرجو قبولها مع الاعتذار فيشكر صنيعهم ثم يقوم الجماهير وكبار الموكب وسائر الناس الذين يقدمون ما تجود أيديهم، وغالباً ما يجري التنافس بينهم بدافع الشخاء والولاء، وهذه العملية تعرف عندهم بـ(الذبة) وهذه الذبة تجري مرة واحدة في كل عام.
وأما ترتيب مسيرة المواكب، فتبدأ مواكب السلاسل عصراً ثم الشموع، وبعد المغرب والصلاة تبدأ المواكب الصغيرة الفرعية متتالية حتى يصل الدور الى المواكب الأصلية الكبيرة، وهي مواكب المحلات، يبدأ موكب العمارة فالحويش فالبراق ثم المشراق، وربما يصل الدور الى هذا الأخير قرب أذان الصبح أو بعده، وأتذكر في بعض السنين عندما كنت أقرأ لموكب المشراق أذن أذان الصبح قبل دخول الموكب الى الصحن الشريف، فصليت فريضة الصبح قرب المنبر وصعدت، أعادنا الله تعالى الى تلك الديار المقدسة والجوار الطاهر ، ولعن الله من ظلمنا وأخرجنا عن ديارنا وأهيلنا، وأبعدنا عن جوار ساداتنا.
مواكب التطبير
يقصد بالتطبير ضرب الرأس بالسيف بعد حلقه. وهذا ما يقوم به عشاق الإمام الحسين عليه السلام المتفانون في حبه، يوم عاشوراء يلبسون الأكفان إظهاراً للاستماتة في نصرته، ويضربون رؤوسهم بالسيوف، حيث تجري الدماء على وجوههم وأكفانهم، يجددون بذلك ذكرى شهداء الطف عليهم السلام وقد شكلت لهذا الغرض مواكب لجمع التبرعات من الموالين لشراء الأكفان، وتوزيعها مجاناً على الهواة ، فهناك موكبان كبيران هما المشراق والبراق، ويتلوهما مواكب فرعية مثل موكب الأفغانيين الذي يلتحق بموكب المشراق، وموكب المرحوم حنون الشكري في محلة العمارة، ومواكب أخرى لا أتذكر أسماؤها بالضبط.
ومواكب التطبير هذه تخرج ليلة عاشوراء للتمرين على كيفية المشي ورفع السيوف وإنزالها على نغم البوق والطبل والصنج، وهذا ما يعرف عندهم بـ(المشق).
وفي صبيحة يوم عاشوراء يتجمع كل في مقره الخاص فيلبسون الأكفان، ثم يطبرون رؤوسهم بالسيوف ، أو يخضعون لشخص يحسن الطبر، فيقف على كرسي ، فيمرون عليه، فيسأل كل واحد منهم عن عدد الطبرات التي يطلبها ، وبعد الإجابة يطبره كما يريد بسرعة عجيبة، ثم يصطفون في صف واحد ، يمسك كل منهم كفن صاحبه بيده اليسرى، ويحمل سيفه باليمنى، وينادون: (حيدر،حيدر،حيدر) على نغم الطبل والصنج والبوق، فيخترقون (الميدان) حيث يتحمس البعض منهم فيضربون ضربات متتالية مما يدفع الحاضرين الى القبض على أيديهم وأخذ سيوفهم حفظاً على أرواحهم.
وهنا تجدر الإشارة الى ذكر رجلين لهما صلة بالموضوع نفسه، أحدهما المرحوم:
علي أكبر التركي:
وهو شيخ مسن خياط، يأتي يوم عاشوراء لوحده، فيقف أمام الإيوان الذهبي، ويخاطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام باللغة التركية، ثم يخرج سيفه ويطبر رأسه عد طبرات وينصرف.
والآخر هو المرحوم:
حسان شايع:
وحسان هذا من أهالي البراق ، وله أخ باسم علاوي شايع عضو في موكب البراق، ويعرف حسان هذا باسم حُديد مصغر حديد، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ، له مواقف بطولية في العقيدة والجهاد، وله موقف يوم عاشوراء يدهش الناظرين، يقف يوم عاشوراء في الشارع العام عند مدخل الميدان مقابلاً لشارع الجبل (شارع الإمام الحسين عليه السلام) المختص بمصلحي مكائن السيارات، والمنتهي بوادي السلام، يلبس كفنه وقد حلق رأسه، فيأخذ بقدح صغير من الخزف فيه ماء وهو متجه نحو كربلاء ، يخاطب الإمام الحسين باللهجة الدارجة بما معناه: أطلبت من جنود الأمويين هذه الجرعة من الماء، فبخلوا عليك بها؟! ثم يرمي بالقدح والماء نحو السماء ويجرد نفسه، ويضرب رأسه ضربات يسمع منها صوت عظم الجمجمة، والناس يحوطونه من كل جانب، ولا سيما الذين يأتون من المدن الأخرى لمشاهدة موقفه، فيتطايرون عجباً وتقززاً من ضرباته، ثم يأتي بصمت وهدوء حتى يصل مدخل السوق الكبير، فيطبر عد طبرات أخرى بتلك الكيفية، فيتقدم موكب تطبير (البراق) حتى يصل الى باب الصحن الشريف، فيكرر طبراته الموصوفة بعدما يخاطب أمير المؤمنين عليه السلام بكلمات، ثم يمسح وجهه، ويخرج من جيبه مسحوقاً يضعه على جروح رأسه، ويلبس قلنسوته (عركجين) وكوفيته (الشماغ) ويساير الموكب ولا ننسى أن نقول: إن رأس حديد – رحمه الله تعالى- لا ينبت الشعر عليه لكثرة الطبرات فيه، وحتى أن الدم لا يخرج منه إلا قطرات قليلة، وذلك لقطع أغلب عروق هامته رحمه الله وحشرنا وإياه مع ساداته عليهم السلام.