لم تشهد المعالم والآثار الإسلامية التي تخص أهل البيت عليهم السلام وإتباعهم تاريخياً في العراق تجاهلاً واضحاً مقصوداً مثلما شهدته في الثلاثين سنة الأخيرة، فقد حاول نظام الحكم المستبد إبقاء تلك البقاع المطهرة والمقامات المقدسة على حالها، دون أدنى رعاية أو ترميم، اللهم إلا تلك العتبات العالية التي يقصدها الغادي والرائح ويتعطر بشذى نسيمها الزائر والمستوطن، ولعلها هي الأخرى تعاني من نقص الخدمات والإهمال، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فالمحب الذي يقوده ولاؤه إلى حضرة الكاظميين عليهما السلام يلاحظ بوضوح وضع القبتين الساميتين، ذلك الوضع البائس حيث تغيرت ملامحهما جراء الغبار وعمليات التأكسد دونما أي تدخل لجليهما، مع الأخذ بنظر الاعتبار إن وارد الحضرة الكاظمية المقدسة كان كافياً لإكسائهما بالذهب إن تطلب الأمر وبأي سعر كان، إضافة لكون هذه القباب المشرقة هي علامة بارزة في قلب عاصمة العراق (بغداد) والتي غالباً ما تكون مقصداً للزوار والسياح وعلى كافة المستويات.
ومهما يكن من أمر فقد تصدى بعض المؤمنين للتبرع ببناء هذا المرقد أو تشييد هذا المزار دون أدنى علم من رجال السلطة، الذين كانوا يترصدون لمثل من يقوم بهذه الأعمال الخيرية والصالحات الباقية، ومع هذا الجهد من المؤمنين إلا أن معظم هذه العتبات والمساجد ظلت تعاني من عدم الاهتمام والإهمال، فقد تحولت جدرانها إلى مخابئ للحشرات، وسقوفها أصبحت لا تقوى حتى على مواجهة رياح شديدة أو مطر غزير.
وهذا الحال ينطبق على مسجد الحنّانة، الذي زرناه نظراً لما له من منزلة رفيعة عند عموم المسلمين فقد ارتبط بذكريات مؤلمة مع رجال اتقوا الله حق تقاته واُستشهدوا وذكره (جل وعلا) بين شفاهم، منها ما له علاقة مع مصاب أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ومنها ما تعلق بمجريات الأحداث بعد واقعة الطف حيث مسير عيالات أبي عبد الله الحسين عليه السلام ورأسه المُطهر، علاوة على هذا وذاك فمسجد الحنّانة من تلك البيوت التي أذن الله لها أن تُرفع يُسبّح له فيه بالغدوّ والآصال.
الحنّانة في اللغة:
بفتح الحاء وتشديد النون مؤنث الحَنَّانُ، الذي يحن إلى الشيء، والحنّةُ بالكسر، رقة القلب(1) والحنّانة ناحية من غربي الموصل، فتحها عتبة بن فرقد صلحاً(2)، وهي موضع بأرض بظهر النجف بها مسجد الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام(3) وقد يصح لنا القول هنا بأن المسجد عرف بهذا الاسم لأنه يهب الرحمة والبركة لمن يصلي أو يبتهل فيه(4).
الحنّانة في التاريخ:
لقد ارتبط اسم الحنّانة الذي طالما تساءلت الناس عنه بالتاريخ، فلا يمكننا أن نفصل بين المعنى الذي أخذ هذا المسجد تسميته منه والحادث الذي كان سبباً في التسمية وكلاهما يصبان في أصل واحد، لابد لنا أن نستعرض الآراء التي تعلل سبب هذه التسمية.
أولاً: فيما يخص أمير المؤمنين عليه السلام:
1ـ يقع مسجد الحنّانة في العراق (النجف الأشرف) وقد سمي بهذا الاسم إثر حادثة مفادها: كان في الثوية (مدفن خواص أمير المؤمنين عليه السلام) قبل الإسلام بناء قديم يسمى القائم، ولما مروا بنعش الإمام علي عليه السلام عليه، فانحنى ومال حزناً فسمي (بالقائم المنحني) وعرفت هذه البقعة بعد ذلك بـ(الحنّانة) وقد بُني عليها مسجداً عُرف بمسجد الحنّانة ومن أسماء المسجد الأخرى، العلم والقائم المائل(5).
2ـ هو من المساجد المعظمة كبيرة الشأن، يتبرك به ويقصده المجاورون والزائرون… وهو القائم المائل (كما في بعض الأحاديث) الذي انحنى حزناً وتأسفاً على أمير المؤمنين حين مروا بنعشه الطاهر ففي كتاب فرحة الغري لابن طاووس ص44 (أن ابن مسكان سأل الإما الصادق عليه السلام عن القائم المائل في طريق الغريين فقال عليه السلام: نعم لما جازوا بسرير أمير المؤمنين عليه السلام انحنى أسفاً وحزناً، وكذلك سرير إبرهة لما دخل عليه عبد المطلب انحنى ومال(6) وهذه من الكرامات الباهرة لأمير المؤمنين عليه السلام(7).
3ـ وذكر السلطان ملك شاه السلجوقي ذكر رسالة فيها أنه رأى في طريق الكوفة منارة منحنية إلى الأرض من اعوجاجها كأنها واقعة على الأرض كزي الراكع وما فيها من صدع ولا خلة بل أنه قائمة على تلك الحالة من الانحناء والاعوجاج فسأل عن سبب ذلك تعجباً فأخبر أن الإمام علي مر عليه فانحنت تواضعاً وخضوعاً فأشار إليها عليه السلام أن قفي على هذه الحالة لتكن معجزة فبقيت على حالتها من الانحناء(8).
4ـ يقول ماسينيون في خططه أن مسجد الحنّانة هو الموضع الذي وضع فيه جثمان علي(9).
ثانياً: فيما يخص الإمام الحسين عليه السلام:
1ـ ووجه تسمية المسجد بالحنّانة على ما يذكر الباحثين، مشتق من الحنين وقد اعتمدوا في ذلك على رواية مفادها أن سبايا الحسين عليه السلام مرت بموضع الثوية وعبثوا برأس الحسين ورؤوس أصحابه في هذا الموضع فحنت الأرض جزعاً بأن سمع عليه صوت حنين، وحن السبي أيضاً مما صنع بالرؤوس، ولذا عرف بمسجد الحنّانة(10).
2ـ وفيها مسجد يعرف بالحنّانة ويقرأ فيه الدعاء المأثور وفي هذا الموضع أنزلوا السبايا كرائم الوحي آل بيت رسول الله7 عيالات الحسين عليه السلام بعد شهادته في كربلاء يوم 10 محرم عام (61هـ) لكي يأخذ ابن زياد الأثيم الحيطة لنفسه من الكوفيين ويستعد خوف النهوض عليه عاجلاً حتى يطوفوا بعيال الحسين عليه السلام سبايا، وروي أن حملة الرؤوس أبقوا رأس الحسين عليه السلام ورؤوس أهل بيته وأصحابه البررة في الثوية فحنت الأرض جزعاً بأن سمع عليها صوت وحنين وحنت السبايا أيضاً جزعاً ومأساة مما صنع بالرؤوس ومن هنا سميت هذه البقعة بالحنّانة(11).
هذا لمن ذكر أن الرأس المطهر قد وضع في هذا المسجد، وهناك من يقول أن الرأس الشريف دفن في مسجد الحنّانة فقد أشار لهذا المعنى ابن طاووس في فرحة الغري ص1، ومن المتأخرين فقد وافقه على رأيه الحر العاملي والوحيد البهبهاني والسيد عبد الله شبر والشيخ خضر شلال وعبد الله أفندي القاضي(12) كما صرح الزبيدي في موسوعته الكاملة قائلاً: (وقيل أن مدفن الرأس في النجف في وسط مسجد الحنّانة عليه ضريح من الخشب وتعلو قبة كيّست بالقاشاني وشيّدت بجانبها مئذنة حديدية الصنع سنة (1388هـ)) ثم يستطرد قائلاً: (وقيل أن الرأس وُضع لا دُفن في مسجد الحنّانة)(13).
موقع المسجد:
يقع مسجد الحنّانة اليوم في المنطقة المعروفة بحي الحنّانة وهو من الأحياء القديمة في النجف حيث ظهر في الخمسينيات من القرن الماضي وقد حدد المؤرخون موقعه سابقاً بقولهم: (موقعه شمال غربي الكوفة، يمين الطريق المتجه إلى النجف وبالقرب منه الثوية وهي مدفن لكثير من خواص أمير المؤمنين)(14).
والثوية مقبرة أهل الكوفة وكما صرحت الروايات فإن أغلب أصحاب الإمام علي عليه السلام دفنوا فيها، وأن كثيراً من قبورهم لم تظهر بعد للعيان فمرقد كميل بن زياد، يعج بقبور أصحاب الإمام عليه السلام وقد طغت شهرة كميل على غيره وقد نُسب قولٌ إلى أبي الغنائم النوسي (توفي بالكوفة ثلثمائة وثلاثة وعشرون من الصحابة لا يدري قبر أحد منهم إلا قبر علي)(15)، أما الشيخ المجلسي فيقول في تعريف الثوية والتي كما قلنا تشمل منطقة الحنّانة اليوم بضمنها مرقد الصحابي كميل بن زياد ولسنا بصدد تعيين حدود الثوية، (الثوية تل بقرب القائم المائل المسمى بالحنّانة، فيه قبور خواص أمير المؤمنين)(16) وأما السيد مهدي الفزويني فيقول: (… وأصحاب أمير المؤمنين جملة في تلعة في مسجد الحنّانة من الغري).(17)
من الكلام أعلاه نستشف أن هذه الأرض تحوي قبوراً كثيرة لأصحاب الإمام علي عليه السلام ولعل المستقبل وحده الكفيل في إبراز معالم تلك القبور إذا ما قامت عمليات تنقيب وبحث آثارية.
وهنا لابد لنا من تنويه آخر في معنى الحنّانة، يرتبط بموقعها، حيث ورد (… وتقع الحنّانة على أطراف موضع معروف منذ العصر الجاهلي يسمى بالثوية وكان بالثوية سجن للمناذرة (ملوك الحيرة) وكان يقال لمن حبس بها ثوى أي أقام وتضم الثوية قبر أبي موسى الأشعري)(18) ثم يبرز الكاتب رأياً يقول فيه (وأن الكلمة (أي الحنّانة) مشتقة من لفظة حنّا وحنّا دير نصراني قديم من أديرة الحيرة وكان في موضع المسجد عينه وتطورت اللفظة من حنّا إلى حنّانة بمرور الزمن ودير حنا قد بناه المنذر الأول بن النعمان الأول الذي حكم بين (418ـ462)م، وكان ديراً عظيماً في أيامه(19) كما يظهر لدينا تعليل آخر لاسم الحنّانة، فالجلالي في كتابه يقول أن منطقة الحنّانة كانت تدعى بالجبانة (والجبّان في الأصل الصحراء، وأهل الكوفة يسمون المقبرة جبانة)(20) ويرى أن الحنّانة مصحفه عن جبانّة وهي الأصح ويوافقه على رأيه الدكتور حسن الحكيم فيقول: (وإني أرى أن الحنّانة المتعارف عليها بين الناس هي مصحفة من الجبانة على اعتبار أنها جزء من الثوية التي هي في الأساس مقبرة أو جبانة مدينة الكوفة)(21).
الإمام الصادق عليه السلام ومسجد الحنّانة:
من خلال الروايات المتوفرة، نلحظ أن الإمام الصادق عليه السلام كان كثير التردد على هذا المكان، ولعل ذلك يعود إلى كثرة طلبه من طاغية زمانه المنصور الدوانيقي الذي أشخصه إلى العراق مرات ومرات، والظاهر أن الطريق الذي يسلكه الإمام عليه السلام إلى بغداد أو الكوفة كان يمر بالحنّانة وعليه فإن مسجد الحنّانة قد يحظى بمزيّة أخرى، ورود الإمام الصادق عليه السلام عليه وصلاته فيه فهو مقام من مقامات الإمام عليه السلام، ولم نر له أي أثر في هذا المسجد، فعن المفضل بن عمر قال: (جاز مولانا الصادق، جعفر بن محمد عليه السلام بالقائم المائل في طريق الغري، فصلى عنده ركعتين فقيل له ما هذه الصلاة، قال هذا موضع رأس جدي الحسين عليه السلام وضعوه هاهنا)(22).
كما روى محمد بن المشهدي: (أن الصادق عليه السلام زار جده الحسين عليه السلام في مسجد الحنانة، وصلى أربع ركعات)(23)، وأما نص الزيارة التي أوردها ابن المشهدي في مزاره الكبير (ومن أراد الإطلاع عليها فليراجع ص517).
على أن ابن طاووس في فرحته يضيف قائلا: (عن أبي السندي، قال كنت مع أبي عبد الله جعفر بن محمد حين تقدم إلى الحيرة، فقال اسرجوا لي البغل، فركب وأنا معه حتى انتهينا إلى الظهر فنزل فصلى ركعتين، ثم تنحى فصلى ركعتينن ثم تنجى فصلى ركعتين، فقلت جعلت فداك إني رأيتك صليت في ثلاث مواضع. فقال أما الأول فموضع قبر أمير المؤمنين عليه السلام، والثاني موضع رأس الحسين عليه السلام، والثالث موضع منبر القائم عليه السلام)(24).
وقد بنى الأستاذ كامل الجبوري على أن الحنانة هي موضع منبر الإمام المنتظر (عجل الله فرجه) اعتماداً على الرواية أعلاه في حين أنها تبين كون الإمام الصادق عليه السلام قد بين أن الركعتين الأوليتين كانتا عند موضع قبر أمير المؤمنين، والحنانة كما بينا هي موضع وليس قبراً وعلى أية حال فقد وجدنا مع الزيارة المعلقة على جدران الجامع الدعاء المعروف (اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن…) وقد يدل ذلك على أن الإمام المنتظر (عجل الله فرجه) سوف ينزل هذا المسجد الذي مروا به حينما نقلوا النعش المطهر للإمام علي عليه السلام من الكوفة إلى النجف.
بقي شيء وهو أن الرأس المطهر للإمام الحسين عليه السلام نقل في عصر عاشوراء وجد حامله بالمسير كي يبلغ ابن زياد حتى يستقبل السبايا من آل الرسول به عند ورودهم الكوفة وعليه فالرأس لم يكن مع العيال إذ سبقهم وبناءً على هذا فإن حامل الرأس مرّ بالحنانة فحنت الأرض حزناً على مصاب الحسين عليه السلام.
(1) ابن منظور، لسان العرب، 7/722.
(2) الحموي، معجم البلدان، 2/346.
(3) الأعلمي، دائرة المعارف الشيعية، 8/508.
(4) الطريحي، العتبات المقدسة في الكوفة، ص146.
(5) الزبيدي، الموسوعة الشيعية الكاملة، 7/70.
(6) ابن طاووس، فرحة الغري، ص1.
(7) محبوبة، ماضي النجف وحاضرها، 1/99، الجبوري، مساجد الكوفة، ص177، الجلالي، مزارات أهل البيت وتاريخها، ص49.
(8) الطريحي، العتبات المقدسة في الكوفة، ص148.
(9) ماسينون، خطط الكوفة، ص8.
(10) الطريحي، العتبات المقدسة في الكوفة، ص46، حرز الدين، مراقد المعارف، 2/220.
(11) الجلالي، مزارات أهل البيت وتاريخها، ص49.
(12) البراقي، تاريخ البراقي، ص80.
(13) الزبيدي، الموسوعة الشيعية الكاملة، ص50.
(14) الجبوري، مساجد الكوفة، ص179.
(15) الثقفي، الغارات، 2/865.
(16) البحار، 97/282.
(17) فلك النجاة، ص57.
(18) الأسدي، بحث ضمن كتاب النجف الأشرف إسهامات في الحضارة الإنسانية، 1/185.
(19) المصدر السابق.
(20) حرز الدين، مراقد المعارف، 2/222.
(21) الحكيم، الثوية، مقبرة الكوفة الكبرى، ص13.
(22) الحر العاملي، وسائل الشيعة 2/444.
(23) الكاشاني، إرشاد أهل القبلة، ص307.
(24) فرحة الغري، ص57.
|