النجف في رحلات الشرقيين -4-
رحلة الإمام السيد محسن الأمين (قده)(1)
ومضينا بعد أيام من كربلاء في السيارة قاصدين النجف الأشرف فوصلنا(2) خان الحماد، وهو منتصف الطريق بين كربلاء والنجف كانت تنزله قوافل الزوار التي تقطع المسافة بين البلدين في مرحلتين، والمسافة 18 ساعة ، وكانت القوافل تمر في طريق أعلى منه وتنزل خاناً يسمى (خان أبو فشيقه)، ثم بنى المحسن الشهير، والتاجر الكبير الحاج محمد صالح كُبّة البغدادي خاناً لنزول الزوار تقرباً الى الله تعالى سمي (خان الحماد) وهجر الطريق السابق وخانه، ثم بنى الشيخ مرتضى الأنصاري، أحد عظماء فقهاء الشيعة المشهورين المتوفي (1281) خاناً بجانب ذلك الخان، ويحيط بالجميع سور واحد، ويدعى الكل بخان الحماد.. (والحماد) هي البرية القاحلة، وبعد استعمال السيارات صار الخان المذكور مخفراً ومقهى قد تمر به السيارات وقد لا تمر.
وبعدما استرحنا قليلاً تابعنا السير متجهين الى النجف الأشرف(3) وعلى نحو من مسافة ثلاثة فراسخ لاحت لنا القبة الشريفة العلوية كالجبل الشاهق في الجو، تتلألأ على ذهبها الإبريز الناصع أشعة الشمس، وتملأ العيون والقلوب بالأبهة والجلال والخشوع، ففاضت العين دمعاً لفرط السرور والفرح، ويا لها نعمة عظمى، هي مشاهدة تلك الأنوار الشريفة بعد أربعة وثلاثين عاماً فأنشأت أقول من قصيدة:
إلى جانب الغربي من أرض بابل حنيني وأشواقي وفرط بلابلي
ولي نحو كوفان تباريح وامق وبالنجف الأعلى لبانات آمل
توطنته دهراً وغصن شبيبتي بنيل الأماني ناضر غير ذابل
وفارقتها كرهاً ثلاثين حجة ونيفاً فردتني إليها وسائلي
وفيها أقول:
فما هي إلا ساعة إذ بدت لنا يلوح سناها قبة المرتضى علي
تلوح كطود شامخ في ارتفاعه وتبدو كبدرٍ لاح في الأفق كامل
ولما بدت للعين عن بعد غايةٍ أهلّت بدمع كالسحائب هاطل
(مدينة النجف)
النجف بظهر الكوفة كالمسناة، تمنع مسيل الماء أن يعلو الكوفة ومقابرها، وبالقرب من هذا الموضع قبر أمير المؤمنين عليه بن أبي طالب(4) والنجف هي مدفن مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام عمرت بعد ظهور قبره فيها وسنذكر سبب خفائه وظهوره عند الكلام على الحضرة الشريفة، ومدينة النجف مبنية على مرتفع من الأرض، وارتفاعها ظاهر من جهتي الغرب والشمال ولا يظهر من جهة الشرق لأنه تدريجي أما من جهة الجنوب فلا يظهر ارتفاع أيضاً إما لأنه لا ارتفاع فيها أو لأنه تدريجي.
(سور النجف)
وعليها سور عظيم عال محكم، مبني بالجص والآجر، بناه أحد وزراء إيران وهو الحاج محمد حسين خان العلاف الأصفهاني، وزير السلطان فتحعلي شاه القاجاري ابتدأ ببنائه سنة 1217 هـ وانتهى سنة 1226هـ وغرم عليه أموالاً عظيمة، وكانت قبله على النجف أسوار لم تكن في سعته وعلوه وإحكامه. وللسور ثلاثة أبواب شرقي غربي، وجنوبي غربي، وكان بناؤه ليقيها من الغارات، وقد كان الابتداء به بعد غزو الوهابيين العراق فإنهم غزوا كربلاء وقتلوا أهلها، ونهبوها سنة 1216هـ، والابتداء ببناء السور الحالي كان سنة 1217هـ كما سمعت، وفي أوائل سنة 1221 غزوا النجف وكان السور الحالي لم يتم بناؤه، لكن يظهر أنه كان سور غيره أضيق منه وأقصر، فكان السبب في وقايتها بهمة علمائها وشجاعة أهلها، يدل على ذلك قول صاحب مفتاح الكرامة في آخر بعض مجلداته أنه في ليلة 9 صفر سنة 1221 هجم الوهابية على النجف، حتى أن بعضهم صعد السور فردهم الله تعالى، وهو صريح في وجود سور في ذلك الوقت مع أن السور الحالي لم يكن قد تم.
وقال أيضاً: في سنة 1223 هاجم سعود الوهابي النجف بعشرين ألف مقاتل، وكانت النُذُر قد جاءت أهلها فخرجوا جميعاً الى السور ومعهم العلماء، فأتاهم ليلاً فوجدهم على حذر قد أحاطوا بالسور بالبنادق والأطواب فثبتوا له خلف السور وقتل منهم وقتلوا منه ورحع خائباً. وهو أيضاً صريح بوجود السور، مع أن السور الحالي لم يكن قد تم.
وقال إنه في سنة 1225 أحاطت الأعراب القائلين بمقالة الوهابي بالنجف وكربلاء، وكانت النجف كأنها في حصار. قال: وفي سنة 1226 جاء عسكر الوهابيين الى النجف وكان أهل النجف كالمحاصرين فدل ذلك على أن الاشتغال ببناء السور الحالي كان في مدة غزو الوهابيين كربلاء والنجف.
(محال النجف)
محال النجف القديمة أربع، العمارة والحويش وأهلهما من (الزكرت) والمشراق والبراق وأهلهما من (الشمرت) وحدثت فيها محال بعد الاحتلال خارج السور .
(عدد سكان النجف)
يبلغ عدد سكانها الأصليين ما عدا الغرباء من الطلبة نحو عشرين ألف على التخمين وقد قيل لنا أن عدد سكانها اليوم يبلغ ستين ألفاً.
(الماء في النجف)
كان الماء المستعمل للشرب وغسل الثياب في النجف ينقل من جدول جيء به من أبو صخير (من ناحية الحيرة) ليسقي الأراضي السنية التي اصطفاها السلطان عبد الحميد مكان البحيرة التي كانت غربي النجف وجفت بقطع الماء عنها، فكان السقاة ينقلون الماء بالقِرَب الى النجف في الأيام الني كنا فيها في النجف نطلب العلم، وكان هذا الجدول في الصيف قد لا يجد السقاة فيه ماء لاستعمال مائه في سقي المزارع فيقع الناس في شدة وتأتي السقاة بالماء من الكوفة فلا يحصل عليه المرء إلا بمشقة مع غلائه المفرط وكان ينقطع في الضيف أيضاً بسبب العواصف التي تحمل الرمال فتسد النهر وفي الشتاء بسبب المطر الذي يهيل الرمل عليه فيطمه فأمر السلطان عبد الحميد بشق جدول آخر للاستسقاء منه خاصة، وتخصيص الجدول القديم لسقي الأراضي السنية فشق هذا الجدول الثاني وجرى فيه الماء، وغُرست على حافتيه الأشجار وبُذِل لحفره من خزينة السلطان عبد الحميد ألف ليرة عثمانية ذهباً، وإصلاحه وحفظه مائة ليرة في كل سنة، وكان ذلك أثناء وجودنا في النجف لطلب العلم ولكن الجدول الثاني كان يعرض عليه ما يعرض على الأول فتطمه الرياح والأمطار صيفاً وشتاءً، ثم إن الحاج محمد علي الشوشتري المعروف بالحاج رئيس لأنه يلقب (رئيس تجار عربستان) بذل ثلثمائة ألف روبية على أن تصرف في حفر جدول يستمد من الفرات ويصب في محل بحيرة النجف القديمة ويصرف ريعه في سبل الخير وذلك سنة 1342 هـ وابتدئ بالعمل ثم أهمل وفي سنة 1346هأ اهتم الحاج آغا محمد البوشهري الملقب معين التجار بأمر الماء فاشترى آلتين رافعتين للماء إحداهما إنكليزية والأخرى ألمانية حتى إذا طرأ عطل على واحدة واحتيج لإصلاحها، كانت الأخرى حاضرة وشاركه في بعض مصارفها الحاج رئيس المقدم الذكر فتم ذلك ووصل الماء الى النجف وأنيرت الحضرة الشريفة والبلدة بالكهرباء الذي تولده الآلة الرافعة للماء، ووزع الماء بالأنابيب على دور النجف.
(وصف اسحاق الموصلي النجف في شعره)
وفي النجف يقول إسحاق ابن إبراهيم الموصلي من قصيدة يمدح بها الواثق أولها:
يا راكب العيس لا تعجل بنا وقف نحي داراً لسعدى ثم ننصرف
يقول فيها:
ما أن رأى الناس في سهل ولا جبل أضفى هواء ولا أعذى من النجف
كأن تربته مسك يفوح به أو عنبر دافه العطار في صَدفِ
حُفّت ببر وبحر من جوانبها فالبرُّ في طرف والبحرُ في طرف
وبين ذاك بساتين يسيح بها نهر تجيش مجاري سيله القصفِ
وما يزال نسيم من أيا منه يأتيك منه برّيا روضة أنِفِ
تلقاك منه قبيل الصبح رائحةٌ تشفي السقيم وقد أشفى على التلف
لو حله مدنف يرجو الشفاء به إذاً شفاه من الأسقام والدنف
(الحضرة الشريفة العلوية)
كان أمير المؤمنين عليه السلام قد أوصى أولاده وخواصه بأن يدفن سراً خوفاً على قبره من بني أمية، فحملوه ليلاً ودفنوه في هذا الموضع وبقي قبره مخفياً لا يعرفه غير أولاده وذريتهم وخواص شيعتهم حتى ظهر في زمن المنصور ودل عليه الإمام جعفر الصادق فعرفته الشيعة وزاروه، ثم أظهره الرشيد فعرفه الناس وبنى عليه ثم تتابع البناء عليه كما فصلناه في الجزء الثالث من أعيان الشيعة الى أن انتهى الى البناء الموجود اليوم وهو من بناء الصفوية.
وقد قال بعض العلماء أن في الكوفة قبور عدد كبير من الصحابة لا يعرف لأحدهم قبر إلا قبر علي بن أبي طالب.
والحضرة الشريفة العلوية تقع في وسط البلد وإن كانت المسافة منها الى آخر البلد قد تختلف وهي بناء مربع يحيط به رواق من جهاته الأربع يحيط بهما صحن من جهاتهما الثلاث عدى الجهة الغربية فليس فيها سوى ممر مسقوف ويحيط بالصحن أواوين من الجهات الثلاث المذكورة داخلها حُجر بطبقتين علوية وسفلية، والأواوين داخلها وخارجها كله مرصوف بالكاشي الفاخر الذي فيه أبدع النقش وقد زين أعلاها بالآيات القرآنية الشريفة وكذلك حيطان الحضرة الثلاثة الخارجية، وللحضرة ثلاثة أبواب قبلي مسدود وشمالي وشرقي أمامه (طارمة) مفروشة بالبلاط وفوقه إيوان قد كسي بآجر النحاس المذهب المقرنص، والحضرة الشريفة قد زينت بالمرايا وازرت بالبلاط الذي كل بلاطة منه نحو القامة وفرشت أرضها بالبلاط، وكذلك الصحن الشريف كله مؤزر بمل هذا البلاط، والصحن كله مفروش بالبلاط وكذلك الأواوين وكان للصحن ثلاثة أبواب شرقي يسمى باب السوق الكبير وشمالي يسمى باب الطوسي وقبلي يسمى باب القبلة ثم أحدث فيه باب رابع غربي ويسمى باب الفرج وجعل أمامه سوق وتنار الحضرة الشريفة اليوم بالكهرباء بواسطة آلة خاصة بعدما كانت تنار بالشموع وفيها شمعدانات كبيرة ضخمة من النحاس تزن أرطالاً كانت معدة لوضع الشموع العسلية ويوجد مثلها وبعددها من شمعدانات الفضة الخالصة كما يوجد شمعدانان كبيران بصنعة بديعة من الفضة ملبسان من أعلاهما وأسفلهما بالذهب الإبريز من وقف السلطان عبد العزيز العثماني وعليهما الطغراء العثمانية باسمه كما يوجد مثلهما في كل من مشهد كربلاء والكاظمية وسامراء والشيخ عبد القادر والأعظمية.
(النجف دار العلم)
والنجف هي دار العلم للشيعة في العراق من نحو مائتي سنة وكانت تشاركها في ذلك كربلاء، وقبل كربلاء كانت دار العلم لهم الحلة من عهد العباسيين وكان تشاركها في عهد العباسيين في ذلك بغداد ثم لنتقلت مدارس العلم من الحلة الى كربلاء ومن كربلاء الى النجف.
(مدارس النجف)
وفي النجف عدة مدارس معظمة، منها مدرسة الصدر في السوق الكبير ومدرسة في محلة البراق ومدرسة الشيخ مهدي ومدرسة المعتمد ومدرسة الصحن الشريف ومدرسة الميرزا الشيرازي ومدرسة حسين الخليلي ومدرسة الشيخ ملا كاظم الخراساني ومدرسة السيد كاظم اليزدي وغيرها. وهذه المدارس قد كان يسكنها قسم من الطلاب والقسم الأكبر يسكن الدور وهم يتعلمون:
(العلوم التي تعلم في مدارس النجف)
علوم النحو، والصرف ، والبيان، والأدب، والمنطق، والحساب، في خلاصة البهائي، والأصول، والفقه، والتفسير والكلام والحكمة العقلية في شرح الباب الحادي عشر، وشرح التجريد للقوشجي، وشرح منظومة السبزواري والإرشادات، والشفا لابن سينا، وشرح المقاصد، وغيرها، والهيئة، والطب على طريقة اليونان وغير ذلك وكان للشعر والأدب فيها سوق رائج.
(عدد الطلاب في النجف)
بلغ فيها عدد الطلاب اثني عشر ألفاً، ولكن بعد الاحتلال الإنكليزي تناقص عددهم كثيراً حتى أصبح عدد الطلاب للعلوم الدينية اليوم قليلاً جداً وهو يتناقص يوماً فيوماً تناقصاً يخشى منه على الإنقراض إلا إن شاء الله ولله أمر هو بالغه.
(الماء في النجف)
والماء فيها يأتي من الكوفة بواسطة آلتين رافعتين إلى مستودع عال في الكوفة يجري الماء منه بأنابيب على وجه الأرض إلى مستودعين عاليين خارج النجف يصفى فيهما الماء فيعود زلالاً صافياً بعد ما كان يمازجه الطين الأحمر الملازم لماء نهر الفرات ثم يوزع من المستودع على كثير من الدور، وبعض الدور التي لم يتم إيصال الماء إليها تأخذ الماء بواسطة السقاة في القِرَب كالسابق.
(مكتبات النجف)
في النجف الأشرف كثير من المكتبات المهمة الحاوية لنفائس المخطوطات والمطبوعات وأكثرها يجمعها العلماء في حياتهم وينتهي عمرها بانتهاء أعمارهم.
1- مكتبة الحضرة الشريفة العلوية، وهي أقدم مكتبات النجف وأهمها، كان فيها من نفائس المخطوطات عدد لا يحصى وجاء ذكرها في كثير من المؤلفات واستفاد الناس منها في أعصار متطاولة، ثم اضمحلت بسبب الإهمال وعدم العناية بجعلها في غرفة تحت إشراف المسؤولين، وإحصاء كتبها في دفاتر، وجُعل قيم لها براتب كما يفعل بسائر مكاتب الدنيا التي يراد بقاؤها لانتفاع الناس بها ولكنها بقيت في غرفة مقفلة عرضة للأرضة وغيرها. وكان بعض أصدقاء نقباء الحضرة الشريفة يستعيرون منهم بعضها ويأخذونه الى دورهم، فقد يرجعونه وقد ينسون إرجاعه أو يتعمدون فيموتون وهو عندهم، وقد أراني بعض ذراري أهل العلم كتاباً عنده بخط العلامة الحلي ومن تأليفه: جزء من المختلف أو المنتهى، لم يبق في ذاكرتي، مفتخراً بذلك وقد علمت بعد ذلك أن هذا الجزء كان استعاره السيد محمد سعيد الحبوبي النجفي العالم الشاعر المشهور من قيم الحضرة الشريفة ومات وهو عنده ثم وقع في يد هذا الرجب.
وقد بقي في المكتبة الشريفة عدد صالح من المخطوطات، فسعى الفاضل الشيخ محمد السماوي النجفي في نقلها إلى حجرة من حجر الصحن الشريف، وكانت فيها أوراق مبعثرة، فجمع منها عدة كتب ورتبها وكان يرجو أن يتبرع أحد بتجليدها. وقد زرنا هذه المكتبة الشريفة ورأينا ما بقي منها أهمها المصاحف الشريفة، بعضها مكتوب على الرق (الجلد) ومنسوب إلى خطوط الأئمة عليهم السلام وبعضها مكتوب على ورق من الخشب الرقيق، وبعضها على الورق، ومنها مصحف منسوب إلى خط مولانا أمير المؤمنين عليه السلام تاريخ كتابته سنة 40 رأيناه في هذا السفر سنة 1352هـ . وفيها عدة من مؤلفات عبد الرحمن العتايقي الحلي، وأظن أنها بخطه ورأيت فيها كتاباً يحتوي على قصائد لابن أبي الحديد بخطه في مدح خلفاء بني العباس قيل لي أنه طبع في بغداد طبعاً غير جيد. ومما أخبرني به الشيخ محمد رضا الشبيبي وزير المعارف العراقية سابقاً أنه تكلم مع مدير الأوقاف في بغداد في أن يجعل منه عناية بهذه المكتبة ويشتري لها قسماً من الكتب، ويجعل لها قيماً بمعاش وتجعل مكتبة عامة يستفيد منها كل واحد، فأجاب طلبه فلما خابر من لهم الكلمة في النجف لم يقبلوا مخافة تدخل الغير في شؤونهم، وظني أنهم غير مصيبين في ذلك، فوجود مكتبة يشرف عليها مسؤولون ضامن لبقائها أكثر من وجودها بدون إشراف مسؤول.
2- مكتبة الحسينية الشوشترية، وهذه الحسينية موجودة في محلة العمارة، وهي بمنزلة ما يسمونه (التكية) أو (الزاوية)، منسوبة لاسم مولانا الحسين بن علي عليهما السلام، يقام فيها ذكرى مصابه وتقام فيها صلاة الجماعة والفرادى. وتقام فيها مجالس الفاتحة وغير ذلك من المصالح العامة، وقد بناها جماعة من التجار الشوشتريين فنسبت إليهم. وفيهما مكتبة لا بأس بها تحتوي على عدد صالح من الكتب المخطوطة والمطبوعة النفيسة، ومن جملة كتبها كتاب جامع الرواة. وكان في النجف رجل عالم لا ولد له وقف كتبه على هذه المكتبة ووقف داره عليها، فسكن الدار شاب من ذرية السيد نعمة الله الشوشتري، وتولى أمر المكتبة ولكن ذلك لا يضمن حياتها وبقاءها ولا يضمن عدم امتداد أيدي السراق إلى كتبها، وقد وقف عليها كتب كثيرة غير كتب ذلك العالم. وقد كنت مدو وجودي في النجف أحضر إليها وأنقل من محتوياتها فأبقى من الصبح إلى الظهر كما مر.
3- مكتبة الشيخ علي ابن الشيخ محمد رضا من آل الشيخ جعفر صاحب كشف الغطاء، وهي مكتبة جيدة وقد وضعها ولده العلامة الشيخ محمد حسين في حجرة داره، وكان غائباً في إيران عند ورودنا إلى النجف الأشرف في المرة الأولى، وكانت مقفلة ومفتاحها بيد خادمه فطلبنا إليه أن يفتحها لنا لننظرها نظرة متفرج فأجاب ودخلناها مدة يسيرة لم تفدنا شيئاً، ورأينا فيها مؤلف والده الذي أسماه الحصون المنيعة في طبقات الشيعة في تسعة أجزاء كلها مسودات على ورق رقيق بال يصعب الاهتداء الى شيء من مضامينه.
4- مكتبة الفاضل الشيخ محمد السماوي النجفي وهي من أجمع مكاتب النجف لنفائس المخطوطات ولصاحبها همة عالية في جمع الكتب واستنساخها وجملة منها نسخها بيده كنا نحضر إليها كل يوم من الكوفة عند إقامتنا بها في الدفعة الثانية، فنبقى بياض اليوم ننقل من محتوياتها ، وكان هو عند ورودنا في الدفعة الأولى مقيماً في بغداد، فلما وردناها في الدفعة الثانية كان قد ورد الى النجف وأقام فيها ومن محتوياتها المخطوطة ديوان السري الرفَّا وديوان عبد المحسن الصوري ونشوة السلافة، ونسمة السحر، نسخ أحد جزأيه بيده والمحيط في اللغة للصاحب نسخ بعضه بيده وغير ذلك.
5- مكتبة الميرزا حسين النوري الطهراني صاحب مستدركات الوسائل، وهذه كانت حاوية عدداً وافياً من نفائس المخطوطات ونوادرها رأيتها حين إقامتي بالنجف لطلب العلم، وهي موضوعة ضمن صناديق صغار بعض فوق بعض تملأ حجرة كبيرة وهذه كان عمرها مقروناً بعمر صاحبها وبعد وفاته اقتسمها ورثته وباعوها.
6- مكتبة السيد محمد بن السيد محمد تقي آل بحر العلوم الطباطبائي، كانت مكتبة حافلة بأنواع المؤلفات المخطوطة والمطبوعة وطان حظها حظ سابقتها.
7- مكتبة ميرزا فتح الله، الملقب بالشيخ شريعة مدار الأصفهاني، وهذه كانت من نفائس المكتبات ولم يكن حظها أسعد من سابقاتها.
8- مكتبة جمعية الرابطة وكتبة منتدى النشر وهما في أول نشأتهما ويرجى لهما التقدم.
وهناك مكتبات أخرى يطول الكلام بذكرها
(شغلنا في النجف)
لم يكن لنا شغل في النجف من يوم ورودنا إلى يوم خروجنا سوى النسخ، والنقل من الكتب التي تصل يدنا إليها مما يدخل في موضوع كتابنا (أعيان الشيعة) كما كنا في بغداد، وربما كنا نذهب في بعض الليالي لرد الزيارة إلى الذين زارونا مما لابد منه، ثم نعود حتى أنه أصابنا في بعض الأيام حمى وزكام، فلم يمنعنا ذلك من متابعة أعمالنا فكنا نكتب ونحن مضطجعون، وكان دأبنا أن نذهب صباحاً إلى مكتبة الحسينية فننقل من محتوياتها ما هو شرط كتابنا إلى الظهر وهو الوقت الذي تفتح فيه المكتبة فإذا كان الظهر وهو وقت إقفالها خرجنا وصلينا الفرض واشتغلنا بالنسخ في المنزل، إلى الغروب ثم صلينا الفرض وأفطرنا وخرجنا لزيارة الحضرة الشريفة، ثم عدنا إلى المنزل واشتغلنا بالنسخ مع من يساعدنا إلى أن يمضي من الليل ثلاث ساعات أو أربع أو أكثر، ثم ننام إلى السحر فإذا كان السحر اشتغلنا بالكتابة نحو ساعة أو أكثر ثم تسحرنا وخرجنا إلى الحضرة فزرنا وصلينا الصبح وقرأنا ما تيسر من دعاء ثم عدنا إلى المنزل ونمنا قليلاً إلى أن تفتح المكتبة، فنذهب إليها ونبقى إلى الظهر وهكذا لا نتخلف عن ذلك أبداً حتى استنفذنا جميع ما فيها، وكثيراً ما كان يساعدنا على النسخ في الحسينية وخارجها بعض الإخوان، ومضى الكلام على هذه المكتبة عند ذكر مكتبات النجف. ومما اشتغلنا به في النجف تصحيح بعض الكتب المخطوطة التي حصلنا عليها مثل كتاب الفصول المختارة للسيد المرتضى وكتاب معالم العلماء الذي نسخ لنا وكتاب رجال بحر العلوم الذي نسخنا بعضه في جبل عامل، ونسخ لنا الباقي في العراق فاستعرنا نسخة من سلالة بيت العلم والمجد السيد جعفر الطباطبائي وقابلنا نسختنا عليها.
وفي منتهى شهر رمضان خرجنا للاستهلال خارج سور النجف فصعدنا على سطح لبعض الفقراء ممن بنوا خارج السور وجاء صاحب الدار. ورحب بنا وفرش لنا بساطاً عربياً فجلسنا عليه وسألناه عن حاله فقال بكل بشاشة: الحمد لله نحن بخير ونعمة في جوار قبر أمير المؤمنين عليه السلام. وكان قبل غروب الشمس بعض الفسحات في السماء فلما غربت الشمس واستولى الغمام على جميع الأفق فبقينا مدة ننتظر زواله فلم يزل حتى يئسنا من رؤية الهلال، وعدنا إلى المنزل ثم علمنا أنه حصلت فرجة في السماء في الموضع الذي كنا نستهل فيه ورآه بعض الناس وجاءت أخبار من الخارج متواترة برؤية الهلال.
(طريفة)
ومما يستطرف من أخبار النجف ما أخبرني به بعض الثقات من أجلاء العلماء، قال: عدت في يوم واحد صديقين لي كانا مريضين، فقال لي أحدهما لما عدته أرأيت كيف تنار الحضرة الشريفة العلوية بالكهرباء فإن هذا مما يسر النفس وإني مسرور لذلك جداً، فقلت له الأمر كذلك، فذهبت من عنده لعيادة الصديق الآخر فبعدما جلست سألته عن حاله فقال: ان المرء في هذه الأيام يود لو كان قد مات قبل سنين، فقلت له لماذا؟ فقال تقول لماذا أليست الكهرباء فوق رأس أمير المؤمنين، فعجبت من التفاوت في العقل بين هذين الرجلين.
(يأجوج ومأجوج)
وجرى يوماً في النجف في مجلس بعض علماء العجم عند زيارتنا له ذكر يأجوج ومأجوج، فقال ربما يسأل سائل فيقول إن الناس اليوم لم تبق بقعة في الأرض إلا وقد عرفوها ودخلوها، فلو كان سد يأجوج ومأجوج والأمة التي وراءه موجودة لعرفوا ذلك ووصلوا إليه ونحن وإن كنا نعلم صدق ذلك بأخبار القرآن إلا أننا نريد دفع هذه الشبهة لو أوردها علينا أحد فقلنا له إن غاية ما يستفاد من القرآن الكريم وجود أمة تسمى يأجوج ومأجوج تفسد فيما يليها من الأرض، وإن ذا القرنين لما بلغ إلى هناك شكا مجاوروها إليه ذلك وسألوه أن يجعل بينهم ردماً فبنى بينهم سداً لم يستطع أولئك أن يظهروه ولا أن ينقبوه، وأنه إذا كان يوم القيامة دك ذلك السد فيما يدك مما على وجه الأرض. وفي بلاد الصين سد باق إلى اليوم يقال أنه هو سد ذي القرنين وإن أمة الصين هي يأجوج ومأجوج وهي التي كانت تفسد في ذلك الوقت فيما يليها من الأرض فمنعها ذلك السد عن الخروج إلى ما وراءه كما يمنع سور البلد من دخول العدو إليه.
وأما ما يروى من الأقاصيص عن يأجوج ومأجوج فهو من الخرافات التي لا يعول عليها.
ومن شجون الحديث أيضاً، والحديث شجون أنني جئت يوماً عند الفجر لزيارة الحضرة الشريفة فصليت الصبح هناك وزرت ودعوت وخرجت فإذا جمع من العوام مجتمعون في الطارمة التي أمام باب الحضرة الشريفة الشرقي وهناك سيد مكفوف البصر قد جلس على منبر يعظهم واعظ مناسبة يجب أن يوعظ العوام بمثلها ويذكر لهم مسائل دينية مما يجب أن يتعلموها، فسررت كثيراً لذلك لأن مثل هذا الوعظ يندر وجوده في النجف أو لا وجود له مع أنه من اللازم المؤكد وجوده دائماً. ولشدة سروري جلست في بعض الأواوين الشرقية بحيث أسمع كلامه وأخرت الذهاب إلى المنزل مع اشتغالي بما لا أريد أن أتعطل عنه دقيقة واحدة، وكان تحت الطارمةفي أرض الصحن نساء من العوام مجتمعات لسماع موعظته مستترات أتم الستر، ويفصل بينهن وبين الرجال حاجز حجري فسرني ذلك أيضاً لأن مثل هؤلاء النساء يجب أن يسمعن المواعظم ويتعلمن الأحكام. ولكن لما فرغ الخطيب من موعظته وتعليمه شرع في ذكر مصيبة الحسين عليه السلام صرخ النساء بأجمعهن صرخة واحدة وتتابع صراخهن بين فترة وفترة، فاشمأزت نفسي عند ذلك وقمت وذهبت وقلت سبحان الله إن هذه العبادة لم يدعها الشيطان حتى أفسدها بصياح هؤلاء النساء الذي هو مستبشع مستهجن مستنكر وهبه ليس محرماً أفليس هو مستهجن مستنكر مستبشع، وأي فائدة دينية أو دنيوية أو اجتماعية تترتب على ذلك وأي نفع يجره إلينا هذا العمل، ولكن القوم قد اعتادوه فلم يستقبحوه (ولكل امرئ من دهره ما تعود) ومن ذا الذي يجسر على أن ينهاهم عنه أو يطمع في أن يسمعوا منه. وسمعت بعد ذلك أن هذا السيد طلبه أهل بغداد إليهم ليكون واعظاً لهم.
(1) هو المرجع الاسلامي الكبير صاحب المواقف الإصلاحية الشجاعة، والإنجازات الاجتماعية والعلمية المتعددة الجوانب، وصاحب المؤلفات التي طبّقت شهرتها الخافقين. ولد سنة 1865م في بلدة شقرا في جبل عامل (لبنان) وتوفي سنة 1952م في بيروت ودفن في مقام السيدة زينب عليها السلام في ضاحية دمشق.
(2) كانت هذه الرحلة في سنة 1352 هـ 1922م راجع كتاب (الرحلة العراقية الايرانية) السيد محسن الأمين من ص37 الى 75.
(3) يأبى على المؤلف تواضعه أن يتحدث عن الاستقبالات الرائعة التي جرت له في كل مكان زاره لا سيما في النجف حيث كان يوم وصوله إليها من أيامها المشهودة . (الناشر)
(4) معجم البلدان ج5 : النجف: بالتحريك، قال السهيلي: بالفرع عينان يقال لإحداهما الربض وللأخرى النجف تسقيان عشرين ألف نخلة، وهو بظهر الكوفة كالمسناة تمنع مسيل الماء أن يعلو الكوفة ومقابرها، والنجف: قشور الصليان، وبالقرب من هذا الموضع قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وقد ذكرته الشعراء في أشعارها فأكثرت
المصدر: موسوعة النجف الأشرف ج4