النجف في رحلات الشرقيين -5-
رحلة آية الله الشيخ محمد تقي الفقيه*
كانت هجرته إلى العراق بعد أخيه المرحوم العلامة الحجة الشيخ علي الفقيه، وذلك في سنة 1345 هـ، وقد كتب يقول:
عندما انتقل الشيخ الوالد (الشيخ يوسف) إلى بيروت في سنة 1345 هـ، كنت بخدمته ضمن العائلة، فأقام أياماً قليلةً لا أظنها تتجاوز الأسبوعين، وإذا بجملةٍ من الزائرين متوجهين نحو العراق لزيارة المشاهد المشرفة، من بينهم المرحوم الخال الفاضل التي ثقة الإسلام الشيح حسين سليمان (رحمه الله) ومعه ولده العلامة الشيخ سليمان (رحمه الله) وابن أخته العلامة الشيخ إبراهيم سليمان. فحضر الشيخ الوالد لوداعهم، فلما رأيتهم صعدت إلى السيارة، وركبت بها لم أنزل، لأنه كان قد بلغني أن أخي يقرأ في الحاشية (حاشية الملا عبد الله على المنطق) فأخذت أبكي لأنه سبقني في طلب العلم، وخلت أن يسبقني الشيخان من آل سليمان!!
ولا ريب أن في تصرفلتي تلك ضرب من ضروب حركات الأطفال. فجعل والدي وأخوالي يمنونني باللحوق بهم في فرصةٍ ثانية، ولكن دون جدوى! فلقد أصريت على موقفي طالباً الذهاب معهم، ولم أكن أفهم آنذاك شروط السفر، ولا أتعقل معنى عدم إمكان السفر بدون جواز قانوني.
لكن الذي أذكره فعلاً، أن أصحاب الشركة (شركة النقل) تعهدوا بأن يدخلونني العراق بدون جواز سفر نظراً لصغر سني.
التفت إلي السائق وأوصاني أن أقول إذا سئلت في المخافر بأني صانع (عامل) سائق السيارة، واتكلنا على الله.
وغادرت السيارة بيروت عصراً متجهةً إلى حلب، وقد كنت حينها أشعر بالابتهاج، والارتياح والغبطة، ولكن حينما اشتد الظلام ولم أعد أرى شيئاً، وقد أمسى كل شيءٍ هادئاً حولنا، بدأ الاستيحاش يهوّم على قلبي ومشاعري، وما عسى أن يفعل طفل في سني آنذاك سوى أن تهيج به الذكريات، فجعلت أتذكر والدي، وأهلي، وأترابي… فانفجرت بالبكاء..! فجعل رفقائي الذين كنت معهم في السيارة يحاولون تهدئتي وإسكاتي، ومنهم: الشيخ نجيب شمس الدين ابن الشيخ علي شمس الدين الشاعر المعروف، والشيخ محمد علي فاضل من بلدة دبعال، والشيخ محمد علي شمس الدين من بلدة عربصاليم، وكلهم أكبر مني سناً، وكان الشيخ نجيب والشيخ محمد علي يصحب كل منهما زوجته معه.
وصلنا أخيراً إلى مدينة حلب عند الفجر، فخرجت مع بعضهم ورأيت فيها ساحةً واسعةً، ثم ما لبثنا أن ارتحلنا، والذي أتذكره أننا وردنا إلى تدمر، فذهبت مع ابني الخال الشيخ إبراهيم والشيخ سلمان. ونظرنا إلى آثارها.
وكان الشيخ إبراهيم – وهو أسن مني وأكثر إدراكاً – يحدثني عنها وعن تأريخها.
وبعد ذلك تابعنا سيرنا، فوردنا العراق، ولا أزال أذكر أنني كنت أشكو العطش، وكنت كلما لمحت السراب من بعيد ظننته ماءً، فأطالب به خالي العطوف المرحوم الشيخ حسين سليمان، وهو يعدني به، ولكني لا أحصل عليه، وهكذا انقضى شطر من الطريق، كلما لاح لي سراب يشتد بي العطش ، ثم يختفي ذلك السراب… ثم يلوح سرابٌ آخر، وهكذا.!
وأخيراً وصلنا النجف في 17 ربيع الأول سنة 1345 هـ وكان عمري يوم دخاتها خمسة عشر سنة وشهرين وعشرين يوماً.
نزلنا عند وصولنا في بيت المرحوم الشيخ خليل الصوري – وهو من أبناء عمومة أخوالي – وكان يسكن العراق ويقيم في مدينة الكوت، وله فيها منزل، ويقيم في (البغيلة) وله فيها منزل أيضاً، وكان له ولدان، أحدهما: الشيخ محمد حسن، وهو أكبر مني سناً، والثاني: محمد علي، وهو نظيري في السن، وله عدة بنات، وكانت أمهم تعرف والدتي، فتعطف علينا من أجل ذلك.
(ولمدينة النجف طابع مميز، يلمس ذلك من يعيش فيها، فهي تفترق عن باقي البلدان بمضمونها الفريد، حيث تتمدد فيها حضارات وحضارات، يبدو ذلك جلياً في مدارسها الدينية وحواضرها العمرانية القديمة منها والحديثة، وفي ساكنيها من طلاب العلوم الدينية، والوافدين إليها من الزوار والسيّاح).
(ففيها الهندي، والتركي، والفارسي، والروسي، والعربي، والأفغاني ..وو.. يجمعهم في الغالب الزي الواحد – زي طلاب العلوم الدينية – مع فارق في لباس الرأس، حيث العمامة إما سوداء، وإما بيضاء، أو لا هذا ولا ذاك – أعني اللفّة الغبانة – كما يسمونها في بلادنا – أو الكشيدة (الطربوش) الأحمر المخضّر بالأخضر أو بالألوان الكزركشة التي يغلب عليها اللون الأصفر، وهو سيماء خدم المقام الشريف، أو من ينتسبون إلى الشجرة العلوية المباركة.
كما وأنهم يفترقون عن بعضهم البعض بلغاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، بل ومآكلهم ، وبذلك تكون النجف أشبه ما تكون، بقطعة فريدة استمدت ألوانها وزخارفها من فنون العالم كله.
إن للنجف الأشرف تأريخاً مضيئاً يشع على مدى عشرة قرون خلت، منذ عهد مؤسسها الشيخ الطوسي حتى عصرنا الحاضر.
حين استقرت بنا الإقامة شرعت في دراسة الألفية في 3 جمادي الأولى سنة 1345 هـ وابتدأت في دراسة المغني في شهر ربيع الأول سنة 1346 هـ وابتدأت في الحاشية على المنطق في 5 ربيع الثاني سنة 1346 هـ وابتدأت في دراسة (المطوّل) في شوال سنة 1346 هـ وابتدأت في البيان منه في 20 محرم سنة 1347هـ، وابتدأت في كتاب المعالم في 19 جمادي الأولى سنة 1347 هــ ثم رجعت إلى جبل عامل في تلك السنة، بسبب انحراف صحي طرأ عليّ أدى إلى ضعف في المزاج(1)
* أحد فقهاء النجف المعروفين ممن ينتسب إلى أصل لبناني هاجر إلى النجف في سنة 1345 هـ واشتغل في طلب العلم حوالي أربعين سنة وعاد إلى لبنان في بداية الستينات، ولد مؤلفات فقهية استدلالية عديدة وهو اليوم أحد مراجع لبنان.
(1) ثم عاد غلى النجف وقضى فترة طويلة في طلب العلم والتدريس.
المصدر: موسوعة النجف الأشرف ج4