الجمعة , 26 أبريل 2024
الرئيسية » علوم وأدب » رسائل الشعائر الحسينية القسم – 4 –

رسائل الشعائر الحسينية القسم – 4 –

( 4 ) قطعة من كتاب إرشاد الأمّة للتمسّك بالأئمّة

الشيخ عبدالمهدي المظفّر

(١٢٩٦ هـ ـ ١٣٦٣ هـ)       

خاتمة في فاجعة الطفّ والمظاهر الحسينيّة

لاريب أنّ فاجعة الطفّ أعظم فاجعة بكاها التاريخ، فإنّه لم يسمع أنّ جماعة قليلة اجتمع عليهم الآلاف الكثيرة، ومنعوهم الماء مع عيالاتهم وأطفالهم وهم على الماء، حتّى قتلوا مع كثير من أطفالهم عطاشى!

ثمّ مُثّل بهم بعد القتل، وداست الخيل صدورهم وظهورهم، وقُطّعت رؤوسهم، وطيف بها في البلدان، وتُركت أجسادهم منبوذة بالعراء مسلوبة الثياب، ونُهبت أموالهم، وسلبت نساؤهم وأطفالهم بعد حرق الخيام عليهم، وسيّرتهم أسارى على الأقتاب بلاغطاء ولا وطاء.

و هذا ممّا لم يفعله من له أقلّ مساس بالإنسانية وإن كان من أكفر الكافرين وأعظم الملحدين.

ولكن لايؤمّل من يزيد وابن زياد خيرمنه، فإنّ آنية اللؤم والخَنا(1) لاتنضح إلاّ بما فيها، وكلّ هذا ممّا يعلمه سيّد الشهداء؛ لأنّه مستودع علم جدّه وأبيه، كما

____________

1- الخَنَا: الفحش. الصحاح ٦: ٢٣٣٢ «خنا».

         

يعلم قتله قبل وقوعه كثير من المسلمين بإخبار النبي صلي الله عليه و الهوأميرالمؤمنين عليه السلام (1).

فلم يرد الحسين عليه السلام إلى العراق إلاّ قادماً على الموت، باذلاً لنفسه وأعزائه في سبيل إحياء الدين، إذ لولا قتله لاندرست معالم الحقّ وصار الدين أمويّاً.

و بقتله تجلّى خبث الشجرة الملعونة، وعداوتهم للّه ورسوله صلي الله عليه و اله، وسوء نيّاتهم.

و من المعلوم لكلّ عاقل، إنّا لوتركنا الحسين عليه السلام ، وقتله ولم نجدّد الحزن

____________

1- ذكر المحدّث الشيخ جعفر بن قولويه القمّي ت ٣٦٨ ه قسماً من هذه الأحاديث فيباب «قول جبرئيل لرسول اللّه‏ صلي الله عليه و اله: إنّ الحسين عليه السلام تقتله أمّتك من بعدك، وأراه التربةالتي يقتل عليها»،

وذكر ابن قولويه القمّي أيضاً جملة منها في باب «قول أمير المؤمنين عليه السلام في قتل الحسين عليه السلام وقول الحسين له في ذلك» منها: ما رواه بسنده عن أبي عبد اللّه‏ الجدلي، قال: دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام والحسين عليه السلام إلى جنبه، فضرب بيده على كتف الحسين عليه السلام ثمّ قال: «إنّ هذا يقتل ولا ينصره أحد».

قال: قلت: يا أمير المؤمنين واللّه‏ إنّ تلك لحياة سوء.

قال: «إنّ ذلك لكائن».كامل الزيارات: ١٤٩ حديث١.


والعويل عليه، لم تتمّ الغاية التي لأجلها قتل الحسين عليه السلام .

فيجب علينا تحصيلاً لهذه الغاية أن نتظاهر بالحزن عليه، كما وجب عليه الإقدام على الموت لأجلها، وإلاّ فقد كان يمكنه أن يبايع يزيد قبل قتله، ويحفظ نفسه وأهل بيته و أصحابه من القتل.

وكلّما ازداد التظاهر بالحزن عليه وبيان مظلوميّته، كان في تحصيل الغاية أأثر، ولذاترى أعداء آل محمّد صلي الله عليه و اله يبغضون المظاهر الحسينيّة لما يعلمون فيها من جرّ الويل على أوليائهم، فإنّ تيسّرلهم المنع عنها بالقهر فعلوا، كما كانت عادتهم في الأزمنة السالفة، وفي زماننا أيضاً، حتّى وقع في بعض السنين بالنجف الأشرف.

وإن لم يتيسّر لهم كما في وقتنا هذا في غالب الأمكنة، أظهروا تارة النبز بالمظاهر المحترمة، وأخرى موّهوا بأنّه لاطائل تحتها، وأنّه قتل الحسين عليه السلام من سنين لاتحصى.

وقد راجت هذه الكلمات على كثير ممّن ينتسب إلى التشيّع، لالخفاء المقصود منها، بل لميلهم إلى الدنيا ولذّاتها، وإعراضهم عن الدين، وإذا تركوا الحجّ والصلاة والصوم والزّكاة، فهُم للمظاهر الحسينيّة أترك.

وما أثّر أولئك الأوغاد على دينهم فقط، بل جرّوا الويل إلى كثير من البسطاء، فدخلوا إليهم من باب الشرع، بزعم أنّ بعض المظاهر ممّا منعتها الشريعة.

وأعانهم إبليس بالوسوسة وإدخال الغضب والإعجاب بالنفس والرّضى عنها وعن آرائها، فقاموا بقيامتهم من حيث لم ينظروا إلى أن غاية الناقمين منع أصل المظاهرات، وقطع كل أثر يتعلّق بأهل البيت عليهم السلام حتّى زيارة مشاهدهم         

المشرّفة كما جرت عليه عادة الناقمين.

فشحذت الأقلام سيوفاً على وريد الشريعة، وسال المداد دماً أسود على وجه الحقّ ودين الشيعة، وجعلوا يلصقون العيب بالمظاهر المحترمة انتصاراً لقول قالوه وأمر التزموه.

ولو تأمّل أولئك البسطاء بما تجنيه أقلامهم، وما تؤثره أرقامهم في هذا الوقت الحرج المتحامل على الدين، لماجنوا شيئاً من ذلك، كيف وهو أضر بأخُراهم والدين من السمّ القتّال.

أسألك أيّها المنصف باللّه العظيم ونبيّه الكريم صلي الله عليه و اله و سلم ، إنّه لوحشر معاوية ويزيد وأعوانهم أحياء، ورأوا ما يبديه الشيعة من إخراج الشبيه لسبايا آل محمّد صلي الله عليه و اله و سلم ، والعويل، وضرب الرؤوس بالسيوف، والظهور بالسلاسل، والصدور بالأكفّ، حزناً لأهل البيت عليهم السلام وجزعاً لما أصابهم، أكان ذلك ممّا يسوء يزيد وذويه، لأنّه من أعظم المظاهر لفضيحتهم والولاء لآل محمّد صلي الله عليه و اله و سلم ؟

أو كان ممّا يسرّهم، لأنّه يعدّ شيناً لأهل البيت عليهم السلام كما يزعمه البعض؟

و هل تراهم يؤيّدون كلمة الناقمين على تلك المظاهر، أو يؤيّدون خلافها؟

بل لاريب أنّهم يعدّون الناقمين من المؤيّدين لعرش ملكهم ومن أكبر أنصارهم، فهنيئاً لأنصارهم يوم الورود على رسول صلي الله عليه و اله و سلم وأميرالمؤمنين عليه السلام والحسنين عليهماالسلام؟!

ولعمري أنّ الأولى لمن يزعم الإصلاح أن يصرف همّته لمنع المحرّمات المجمع على حرمتها، والحثّ على فعل الواجبات المسلّم وجوبها، ويترك مالايعرف غايته الأخرويّة والدنيويّة.

ولكن كيف يكون ذلك وقد أخبرنا أئمّتنا الأطهار عليهم السلام بارتداد أكثر الشيعة عن دينهم في مثل هذه الأعصار؟ فإنّه إذا لم يوجد من تملك الدنيا والشهوات قلبه! ومن تسوّل له نفسه الإصلاح وهولايعرف طريقه، كيف يرتدّ الشيعة؟!

وإنّي لأدعو لنفسي وإخواني المؤمنين أن يثبّت اللّه قلوبنا على دينه، وأن لايجعلنا من المعارين، إنّه أرحم الراحمين.

السيّد محسن الأمين ورسالته التنزيه لأعمال الشبيه

وها أنا أذكر لك بعض من أوقعته الغفلة في الورطة، وقذفته البساطة والاستبداد في الرأي في الهوّة، فمنهم السيّد الأجل المحسن الأمين العاملي في رسالته الموسومة بـ«التنزيه لأعمال الشبيه».

وهذا السيّد قد كنّا نسمع عنه أنّه من أهل المآثر الحسان، وذوي المكانة السامية في العلم، ولكن لمّا اطّلعنا على هذه الرسالة وقعنا في حيرة الشكّ ؛ لما اشتملت عليه من التهجّمات على الشيعة والتهويلات الفارغة على مظاهر الشريعة، والاستدلال على مقصوده بمالايليق أن يُنسب إلى مثله.

وليته اكتفى بذلك وكفّ عن قدس صاحب الشريعة وأهل بيته المعصومين عليهم السلام، ولم ينسب إليهم عدم العصمة عن فعل المحرّمات جهلاً بمواقعها، أو لسلب الاختيار منهم عند وقوعها.

وهذا ممّا يخالف إجماع الإماميّة؛ لأنّهم عندنا معصومون عن المعاصي عمداً وخطأً، إذ لووقعت منهم جهلاً بها أو لغلبة الطباع البشريّة عليهم، لم تكن أفعالهم حجّة، بل ولا أقوالهم، ولم يثبت بهم اللطف الكامل علينا ؛ فإنّ من لايملكنفسه عن فعل المعاصي لايكون مقرّباً في كثير من الأحوال إلى الطاعات، بل مبعّداً عنها.

وإنّي لاأريُد الردّ عليه في مقاصده، وإثبات رجحان تلك المظاهر الشريفة أو وجوبها الكفائي؛ لكفاية ما كتبه للردّ عليه جملة من إخواننا الأفاضل، ولكن أتعرّض لبعض ما كتبه؛ استغراباً له وإن كان كلّ ما فيها غريباً.

فمن غرائبها: نفي العصمة عن حجج اللّه وهداة دينه، كما سلف(1).

ومنها: نفي العصمة عن شبل أميرالمؤمنين عليه السلام العباس عليه السلام ، مريداً به إثبات المعصية له في حال الوفود على ربّه.

فالسيّد يثبت له المعصية والإلقاء بالنفس إلى التهلكة بلاوجه شرعي، والإمام عليه السلام يصفه بصلابة الإيمان(2).

___________

1- لعلّه إشارة لقول السيّد محسن الأمين في رسالته «التنزيه» (المطبوعة ضمن هذه

المجموعة): ٦٦ – ٦٧ وفيه: «أمّا استشهاده – أي الشيخ عبدالحسين صادق العاملي في رسالته سيماء الصلحاء (المطبوعة ضمن هذه المجموعة) أيضاً – بقيام النبي صلي الله عليه و اله و سلم للصلاة حتّى تورّمت قدماه، فإن صحّ فلابدّ أن يكون من باب الاتفاق، أي ترتّب الورم على القيام… إلى آخر كلامه.

وأمّا استشهاده بحجّ الأئمّة عليهم السلام مشاة، وهو من هذا القبيل.

أمّا بكاء علي بن الحسين عليه السلام المؤدي إلى الإغماء وامتناعه عن الطعام والشراب، فإن صحّ فهو أجنبي.

2- روى المفضّل بن عمر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «كان عمّنا العبّاس بن عليّ نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبداللّه‏ – عليه السلام – وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً».

سرّ السلسلة العلويّة لأبي نصر البخاري: ٨٩، عمدة الطالب لابن عنبة: ٣٥٦، مقتل الحسين عليه السلام لأبي مخنف: ١٧٦، الأنوار العلوية للنقدي: ٤٤٢.

 

 

والسيّد ينقم عليه رمي الماء من يده، والإمام يمدحه بالمواساة(1).

ومنها: استدلاله على حرمة تلك الشعائر المحترمة بقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾(2).

فإنّي لا أعرف كيف يكون الحكم غير الإلزامي حرجاً وتكون الحرمة ليست بحرج، على أنّه قد اعترف هو بنفسه بعدم إفادتها الحرمة كما في ص ١٧ و١٨ و٢٠.

ومنها: استدلاله على الحرمة بقوله صلي الله عليه و اله و سلم : «جئتكم بالشريعة السهلة السمحاء»(3).

فإنّي لست أدري كيف تكون الحرمة من سهولة الشريعة، والإباحة من صعوبتها.

____________

1- في زيارة الناحية المأثورة عن صاحب العصر والزمان عجّل اللّه‏ فرجه الشريف:«السلام على أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين، المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده

من أمسه، الفادي له، الساعي إليه بمائه، المقطوعة يداه». إقبال الأعمال للسيّد ابن طاووس ٣: ٧٤.

وفي زيارة أخري قال الإمام الصادق عليه السلام : «أشهد لقد نصحت لله ولرسوله ولأخيك، فنعم الأخ المواسي». المزار للشيخ المفيد: ١٢٤.

2- الحجّ ٢٢: ٧٨.

3- رسالة «التنزيه» ٢: ١٧١. والحديث في الكافي ٥: ٤٩٤ حديث ١، باب «كراهيّة الرهبانية

وترك الباه»، وفيه: «بعثني بالحنيفية السهلة السمحة».

وفي مسند أحمد بن حنبل ٥: ٢٦٦، وتفسير القرطبي ١٩: ٣٩، والطبقات الكبرى ١: ١٤٠ «بعثت بالحنيفيّة السمحة».

 

ومنها: استدلاله على الحرمة بقوله: «لايُطاع اللّه من حيث يُعصى»(1)، فإنّه جعل محلّ النزاع مفروغاً عن حرمته، حتّى صيّره من مصاديق الحديث.

فياعجباً؛ أهذه المظاهر التي مضت عليها القرون الكثيرة، وهي شعار للشيعة، حتى أنّ بعضها مضى عليه ألف سنة، تكون بنظر السيّد محرّمات مفروغاً عن حرمتها، والشيعة بأجمعهم في جميع الأزمنة بين مرتكب للمحرّم وبين تارك للنهي عن المنكر راضٍ به، فيحقّ لنا أن نستسعد بدعائه ودعاء جماعة المصلحين بالغفران لإخواننا المؤمنين، ونستشفع بهم إلى اللّه‏ في خلاص رقابهم من النار.

ومنها: جعله التذكار الحسيني بأطواره وشؤونه – عدا البكاء – مجلبة للنقص والعار، ومحلاّ للاستهزاء عند الأغيار(2).

بربّك أيّها المنصف البصير، هل تصلح أمثال هذه التلفيقات دليلاً على حكم شرعي؟

ولو اعتبرنا أمثال ذلك دليلاً لوجب علينا إبطال كلّ العبادات كالصوم والصلاة والحجّ والزّكاة ونحوها، إذ ما من عبادة إلاّ وهي محلّ الاستهزاء عند غالب البشر، بل ويلزمنا ترك البكاء؛ لأنّه كاللطم ونحوه محلّ السخرية والاستخفاف عندهم.

وكيف نعبأ بسخريّتهم ولهم مراسم دينيّة أولى بالطعن، وقد أرشدنا اللّه‏ تعالى إلى مقابلتهم بالمثل لأجل ردعهم بقوله تعالى: ﴿إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾(3).

____________

1- رسالة «التنزيه» المطبوعة ضمن هذه المجموعة ٢: ٢٤٤.

2- رسالة «التنزيه لأعمال الشبيه» المطبوعة ضمن هذه المجموعة ٢: ١٧٧.

3- هود ١١: ٣٨.

 

وحقاً أقول: إنّ الداهية التي جاءتنا إنّما هي من استعظام الأجانب والنظر إليهم بعين الاحترام، فملنا إلى أخلاقهم ومعارفهم، ولم ننظر إلى أنّها الداء الدوي في ديننا ودنياناً.

وهل يُعوّل عاقل على عقولهم ولمايأت الزمان بمثل عاداتهم في السخافة، والالتحاق بالوحش في عدم الحياء؟

انظر إلى رقص «الدنص»(1)، واختلاط الرجال بالنساء كالحيوانات، الموجب لجهل الولد بأبيه.

على أنّ سخرية الأجانب إنّما تكون من السذّج أو المعاندين، وأمّا الفلاسفة المنصفون فقد قدّروا ما تفيده هذه المظاهر الحسينيّة من الغايات الشريفة، وما فيها من الأسرار الجليلة، كما يرشدك إليه ما كتبه المستشرقان الدكتور «جوزف» الفرنسوي والمسيو «ماربين» الألماني(2)، وقد نشرت مقالتهما مرّات عديدة.

ويفصح عنه ما تراه من حال أضدادنا من المسلمين فإنّهم لاينظرون إلى هذه الشعائر الشريفة إلاّ بعين الغضب والسخط؛ لعلمهم بما تجني عليهم وعلى

____________

1- الدنص: الرقص أو حفلة راقصة، وهي كلمة انكليزية dance. انظر: المغني الأكبر لحسن سعيد الكرمي.

2- الذريعة ٢٢: ٢٤ وفيها: «مقتل أبي عبداللّه‏ الحسين عليه السلام للسيّد ميرزا حسن ابن السيّد

علي القزويني… وفي آخره تعريب كلام موسيو ماربين الألماني في فلسفة شهادة الحسين عليه السلام ».

وفي الأعلام للزركلي ٢: ٢٤٣: «وللفيلسوف الألماني ماربين كتاب سمّاه السياسة الإسلامية أفاض فيه بوصف استشهاد الحسين».

وفي معجم المطبوعات النجفيّة: ٢١٥: «السياسة الحسينية: المسيو ماربين ودكتور جوزيف. المطبعة العلوية، ١٣٤٧ ه ، حجم الكف، لغة فارسية، ٥٨ صفحة».

 

أوليائهم، ولو سخر بعضهم منها فهو من باب «الديك يرقص مذبوحا من الألم»(1).

ومنها: إنكاره مجيء زين العابدين عليه السلام من الحبس لدفن أبيه عليه السلام (2).

فإنّه ما أنكر إلاّ أمراً مسلّماً عند الشيعة، كما يشهد له ما رواه أبو عمرو الكشّي في كتاب الرجال ص ٢٨٩ من احتجاج الواقفة على الرضا عليه السلام في إمامته.

فمن احتجاجهم ماقاله علي بن حمزة بعد كلام: إنّا روينا عن آبائك: أنّ الإمام لايلي أمره إلاّ إمام مثله.

فقال له أبوالحسن عليه السلام : «فأخبرني عن الحسين بن علي، أكان إماماً أو كان غير إمام»؟

قال: كان إماماً.

قال عليه السلام «فمن ولي أمره»؟

قال: علي بن الحسين.

قال عليه السلام : «كان محبوساً في يد عبيد اللّه‏ بن زياد لعنه اللّه‏».

قال: خرج وهم لايعلمون حتى ولي أمر أبيه ثمّ انصرف.

فقال له أبوالحسن عليه السلام : «إنّ هذا الذي أمكن علي بن الحسين أن يأتي كربلاء فيلي أمر أبيه، فهو الذي أمكن صاحب هذا الأمر أن يأتي بغداد ويلي أمر

___________

1- عجز بيت معروف ومشهور، وورد بعدّة ألفاظ منها:

لاتحسبوا رقصي بينكم طرباً   فالطير يرقص مذبوحاً من الألم

لاتحسبي رقصي بينكم طرباً   قد يرقص الديك مذبوحاً من الألم

2- قال في التنزيه ٢: ١٩٢ «وغالبهم – خطباء المنبر الحسيني – عوام يخلطون الحابل

بالنابل . . . ويجهل أو يتجاهل قراءة حديث . . . أو مجيء زين العابدين عليه السلام لدفن أبيه مع بني أسد».

 

أبيه ثمّ ينصرف»(1).

ويدلّ عليه أيضاً قول الرضا عليه السلام الذي علّمه للردّ على المأمون: إنّ الإمام لايلي أمره إلاّ إمام آخر، وأنّ الجواد هو المتولّي لأمر أبيه مستوراً، ولوترك لولى أمر أبيه ظاهراً(2).

وقد بلغني عن رسالة هي بنت جماعة كتبت حديثاً انتصاراً للسيّد محسن(3)، أيّدوا بها منع دفن زين العابدين عليه السلام لأبيه عليه السلام بدعوى أنّه مخالف لمقدورات البشر(4).

وهذا لعمر الحقّ هوالأمر الموجب للخروج عن الإسلام، وتكذيب الكتاب المجيد، حيث أخبر عن وصيّ سليمان عليه السلام بأنّه يأتيه بعرش بلقيس قبل أن يرتدّ إليه طرفه(5)، وعن إسراء النبي صلي الله عليه و اله و سلم ، إلى بيت المقدس بقوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي

____________

1- رجال الكشي: ٤٦٤/٨٨٣.

2- في عيون أخبار الإمام الرضا عليه السلام ٢: ٢٧٦: إنّا نقول: إنّ الإمام لايجب أن يغسّله إلاّ إمام مثله، فإن تعدّى متعدّ فغسّل الإمام لم تبطل إمامة الإمام لتعدّي غاسله، ولا بطلت إمامة الذي بعده بأن غلب على غسل أبيه، ولو ترك أبو الحسن علي بن موسى الرضا بالمدينة لغسّله ابنه محمّد ظاهراً مكشوفاً، ولا يغسّله الآن أيضاً إلاّ هو من حيث يخفى.

وفي الهداية الكبرى: ٢٨٣: ما يغسّله أحد غير من ذكرته.

3- هي رسالة «كشف التمويه عن رسالة التنزيه» للشيخ محمّد الگنجي النجفي ت حدود ١٣٦٠ ه، (المطبوعة ضمن هذه المجموعة)، وقد طبعت طبعتها الأولى سنة ١٣٤٧ في المطبعة العلويّة في النجف الأشرف.

4- كشف التمويه (المطبوعة ضمن هذه المجموعة) ٣: ٢٤٨.

5- النمل ٢٧: ٤٠ «قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ».

 

أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى﴾(1).

بل موجب لإنكار المعجزات والكرامات كلّها، وأنّ السكوت عن مثل هذه الكلمات الصادرة عن الهوى لاعن الاعتقاد أقرب إلى الرشد والسداد.

ومن غرائبها قوله ص٤: «ومنها: إركاب النساء الهوادج، مكشّفات الوجوه، وتشبيههن ببنات رسول اللّه صلي الله عليه و اله و سلم ، مثل ماجرى في العام الماضي(2) في البصرة من تشبيه امرأة خاطئة بزينب(3) انتهى.

عفوك اللّهم من هذا الاختلاق، كيف علم به حضرة السيّد، حتى أرسله إرسال المسلّمات، ولم نعلم به نحن «و أهل البيت أدرى بما فيه»(4).

يعزى ذلك إلى البصرة، ونحن فيها ولم نغب عنها في العام الذي ذكره، ولم نشاهد ذلك ولم نسمعه، ولو صحّ لكنّا أوّل منكر على هذا الفعل الشنيع، الذي تأباه الغيرة والحميّة، و يحظره الشرع الأقدس.

ولكن سوّلت لهذا المصلح وأمثاله نفوسهم أمراً، فصبر جميل واللّه المستعان، وكان الأحرى به قبل سماع هذا الخبر أن يسمع قوله تعالى: ﴿إِن جَاءكُمْ

____________

1- الإسراء ١٧: ١.

2- أي في سنة ١٣٤٥ه ، لأنّ تأليف رسالة التنزيه كان سنة ١٣٤٦ه .

3- رسالة التنزيه المطبوعة ضمن هذه المجموعة ٢: ١٧٣. وتمام العبارة هي: «ومنها:

إركاب النساء الهوادج، مكشّفات الوجوه، وتشبيههنّ ببنات رسول اللّه‏ صلي الله عليه و اله و سلم ، وهو في نفسه محرّم ؛ لما يتضمّنه من الهتك والمثلة، فضلاً عما إذا اشتمل على قبح وشناعة وإركابها حاسرة على ملأ من الناس».

4- نسبه في بحار الأنوار ٧٨: ٢٧٤ إلى الأئمّة عليهم السلام، والظاهر أنّه مقولة.


فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾(1).

وكيف ساغ له أن يشين هذه المظاهر الشريفة بالأمور المكذوبة، ويهين شيعة آل محمّد صلي الله عليه و اله و سلم الذين لاقصدلهم إلاّ إحياء أمر آل البيت عليهم السلام حتى بذلوا النفيس في سبيل ذكرى الإمام الشهيد عليه السلام ، مبتغين بذلك مرضاة اللّه تعالى.

وما زال أهل البصرة منذ القدم لايعدون أطوار المواكب العزائية الجارية في المشاهد المقدّسة، وسيجمع اللّه‏ تعالى بينهم وبين السيّد في يوم تنشر فيه الأعمال، وتتضح فيه خفيات السرائر.

ولقد كنّا نحسب أنّه إذا وقف على بعض المؤلفّات المبيّنة لبعض ما احتوت عليه رسالته من الخلل، يفطن للسهو الصادر عنه، الذي هو غير معصوم منه، فيراجع الحقّ الذي يزعم أنّه رائده، جرياً على سنن طلاب الحقيقة، سيّما بالنسبة إلى ما يضرّ في عقائد ضعفاء الناس، كما صدر عنه في شأن عصمة النبي صلي الله عليه و اله و سلم وآله الطاهرين عليهم السلام.

ولكن ياللأسف لم نجد لما حسبناه أثراً، ولم نسمع له خبراً، وعسى أن تردنا الأنباء بعد حين.

وأنّ حضرة السيّد لم يكن منفرداً بالتهجّم على الشيعة والمظاهر المقدّسة، بل هناك من هو أعظم منه، وهو صاحب «الصولة»(2) التي أنكرها كلّ مَن يهمّه أمر

____________

1- الحجرات ٤٩: ٦.

2- رسالة «صولة الحقّ على جولة الباطل»، للسيّد محمّد مهدي الموسوي القزويني ت ١٣٥٨ ه، الذي انتهى من تأليفها في الخامس عشر من شهر محرّم الحرام سنة ١٣٤٥ ه، طبعت في المطبعة الوطنية في العشار في البصرة.


أهل البيت الطاهر عليهم السلام.

ولنضرب عن ذكرها صفحاً؛ لاتّضاح حالها، ونتعرّض لشيء ممّا ذكره في كتابه «خصائص الشيعة»(1)، الذي تحامل فيه عليهم بكلّ ما يبلغه قلمه كأنّه ليس منهم.

____________

1- في الذريعة ٧: ١٦٨، ٨٩٤: «خصائص الشيعة التي جاءت بها الشريعة، للسيّد محمّد مهدي… وقد فرغ من تأليف الخصائص في رجب سنة ١٣٤١ ه ، وطبع في بغداد في تلك السنة في ٧١٢ صفحة، وفي أوّله فهرس مطالبه مفصلاً من المقدّمة التي من أصول الدين الخمسة، ثمّ فصول كثيرة في المواعظ والآداب والأخلاق».         

 

صاحب الصولة وكتابه خصائص الشيعة

قال في الخصائص ص ٢٩٥:

«ومن الظلم ضرب الرّجال رؤوسهم بالسيوف، وظهورهم بالحديد – الذي هو بصورة السلسلة المجتمعة – في تعزية خامس آل العبا» إلى أن قال: «وقد يموت جماعة منهم في كلّ سنة».

ثمّ قال: «و أهل العلم ينادون بحرمة ذلك، وبأنّه بدعة» إلى أن قال: «فليت شعري لم تفضحون نفوسكم عند الملل الخارجة، وتعترفون بخروجكم عن خير أمّة، لو سألوكم عن هذه المناكير والمبتدعات المتقدّمة هل هي من دين المسلمين؟

فيقيناً تنفونها عن دين المسلمين لوصدقتم، ولو قلتم بأنّها من دين المسلمين، لكفرتم و خرجتم بذلك عن الدين».

بربّك أيّها الناقد البصير أُنظر ما مراده بالظلم، ومَن المسؤول عنه بنظره: أهم المجتهدون في غابر الدهر وحاضره، أم المقلّدون؟

فإن كان المسؤول المجتهدين، فبالضرورة أنّهم لم يفتوا إلاّ عن دليل، وناهيك أنّ منهم الفقيه الأكبر الشيخ جعفر، والمحقّق القمّي، والخضر بن شلاّل،

والمدقّق الأنصاري وأمثالهم من أبرار العلماء وأعيانهم الماضين والحاضرين(1).

وإن كان المقلّدين، فهم إنّما عملوا بفتوى المجتهدين، فمن أين يتحقّق معنى الظلم والحال هذه؟

ولعلّه يزعم أنّ مجرّد الإقدام على إيذاء النفس ظلم لها فيحرم.

وفيه: أنّه على هذا يحرم الجهاد والصوم والحجّ ونحوها، ويمكن أن يرى أنّ من لم يفت ولم يعمل على حسب هواه وهوى المصلحين من أمثاله ظالم جائر.

فياموت زر إنَّ الحياةَ ذَميمةٌ    ويا نفسٌ جِدي إنَّ دهرك هازل (2)

و إنّي لأعجب من هؤلاء كيف بلغ بهم العداء لشعائر آل محمّد صلي الله عليه و اله و سلم حتى جعلوا يذكرون ما هو أجلى في الافتراء من مزاعم الناصبة لأهل البيت عليهم السلام، فإنّهم يقولون: إنّه قديموت في كلّ سنة جماعة؟!

كأنّهم يخبرون غير خبير، ويشاهدون مالم يشاهده الناس، فأنا وكلّ ذي بصر وسمع نرى ونسمع أنّ من يضربون الرؤوس والظهور بالسيوف والسلاسل في العراق – فضلاً عن إيران وغيرها – ليعدّون بالآلاف، وما رأينا وما سمعنا أنّ

____________

1- تقدّمت فتاواهم وتراجمهم في رسالة «كلمة حول التذكار الحسيني» للشيخ محمّد جواد الحچّامي ت ١٣٧٦ ه، ورسالة «نصرة المظلوم» لولد المؤلف الشيخ حسن المظفّر (ت ١٣٨٨ ه)، (المطبوعتين ضمن هذه المجموعة).

2- بيت من قصيدة لأبي العلاء المعري ، أحمد بن عبدالله بن سليمان (ت ٤٤٩ هـ) عنوانها (ألا في سبيل المجد ) و البيت و الذي و بعده :

و طاولت الأرض السماء سفاهة           و فاخرت الشهب الحصا والجنادل

فيا موت زر إن الحياة ذميمـــــة            ويا نفس جدي إن دهــــــرك هازل

و قد أغتدي و االليل يبكي تأسفا             علي نفسه و النجم في الغرب مائل

         

أحداً من أُولئك المجاهدين داخله السقم، فضلاً عن الموت.

ولو سلّم حصول الموت اتّفاقاً فهو لايوجب الحرمة، وإلاّ لحرم ركب السيّارات والسفن، ولم يقل به أحد.

ومن هذا الباب في الافتراء دعوى أنّ أهل العلم ينادون بحرمة هذه الشعائر، وبأنّها بدعة.

ليت شعري من هم أهل العلم المنادون بالحرمة؟ وهذه كتب العلماء وفتاواهم منشورة، قرأها كلّ أحد، تنادي بالإباحة، وقد نشرت أخيراً عدّة فتاوى لعلماء العصر الحاضر تصرّح برجحان هذه المظاهر الولائيّة لأهل البيت عليهم السلام(1).

____________

1- ذكر بعضها الشيخ محمّد جواد الحچّامي ت ١٣٧٦ ه في رسالته «كلمة حول التذكار

الحسيني» – المطبوعة ضمن هذه المجموعة – كفتوى السيّد جعفر بحرالعلوم (ت ١٣٧٧ ه) الذي نقل كلام صاحب القوانين الميرزا أبوالقاسم القمي (ت ١٢٣١ ه) وكلام الشيخ مرتضى الأنصاري (ت ١٢٨١ ه) وكذلك فتوى الشيخ هادي كاشف الغطاء (ت ١٣٦١ ه).

و ذكر أيضاً استفتاء وجّهه بعض المؤمنين إلى العلماء فأجابوا عليه منهم: السيّد محمّد الفيروزآبادي (ت ١٣٤٥ ه)، والشيخ عبداللّه‏ المامقاني (ت ١٣٥١ ه)، والشيخ مرتضى كاشف الغطاء (ت ١٣٤٩ ه)، والشيخ هادي كاشف الغطاء (ت ١٣٦١ ه)، والشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء (ت ١٣٧٣ ه).

وكذلك يذكر جواب الشيخ محمّد جواد البلاغي (ت ١٣٥٢ ه) عن استفتاء وجّه له.

وذكر بعضها أيضاً ولد المؤلّف الشيخ حسن المظفّر (ت ١٣٨٨ ه) في رسالته «نصرة المظلوم» – (المطبوعة ضمن هذه المجموعة) – منها فتوى الميرزا النائيني (ت ١٣٥٥ ه)، وكذلك ما كتبه العلاّمة محمّد جواد البلاغي (ت ١٣٥٢ ه) عن مشاهداته لموكب القامات في سامراء، وكيف أنّ هذا الموكب كان يخرج من دار السيّد الميرزا محمّد حسن الشيرازي (ت ١٣١٢ ه)، وأنّ أفراد هذا العزاء كانوا يضربون رؤوسهم في داره ثمّ يخرجون للشوارع، واستمرّ الأمر كذلك إلى زمن الميرزا الشيخ محمّد تقي الشيرازي (ت ١٣٣٨ ه).

          

ومن المستغرب زعم أنّها بدعة، وهو يعترف في كثير من كلماته أنّها محلّ الخلاف بين أهل العلم، فكأنّه يزعم أن البدعة ما لم يره بنظره مباحاً، لا ما أثبته الشخص من الدين وهو يعلم أنّه ليس منه.

و أمّا مازعمه من الفضيحة عند الملل الخارجة، فقد عرفت مافيها، وحقّاً أقول: إنّ الفضيحة إنّما هي لمن لايعرف سرّ هذه الشعائر وفائدتها، ولم يدرك أنّ لها أثراً كبيراً في نشر دعوة التشيّع سيّما في الهند، كما أدركه أهل العرفان من الملل الخارجة، وأدركه مخالفونا المعادون لأهل البيت عليهم السلام، الذين اجتهدوا في منع هذه المظاهر الشريفة، ومازالوا عليه لو أمكنهم.

نعم، أدخل علينا الفضيحة من يزعم أنّه منّا ويدنّس الشعائر المقدّسة بما لاأصل له.

وأغرب من هذا كلّ كلامه الأخير، فإنّي لاأعرف كيف يخرج أولئك المجاهدون في نصر الدين عن «خير أمّةٍ»(1)، وهم لم يعملوا إلاّ على وفق رأي

العلماء العاملين؟!

وكيف صار ماتظاهروا به من المناكير والمبتدعات، وقد أفتى به العلماء الأعلام؟!

وكيف تيقّن أنّهم ينفونها عن دين الإسلام، وهي من أظهر مندوباته عندهم، بل من ضروريّات مذهبهم؟!

____________

1- آل عمران ٣: ١١٠.

         

وكيف يكفّر من زعم أنّها من دين الإسلام ودخولها فيه من الضروريّات بين عوام الشيعة؟! ولم يخالف فيه من أهل العلم إلاّ من لم يعرف له الأهلية أهله؟!

يا سبحان اللّه! ما أقول في هؤلاء القوم؟! يرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم فتوى الجمّ الغفير من أعلام العلماء الأبرار برجحان هذه المظاهر، ولم يرتدعوا عن مثل هذه الكلمات، وتتلى عليهم الأدلّة الواضحة ولم يرعووا عما تهوروا به من الافتاءات، كأنّ لهم ترة(1) عند الشعائر المقدّسة وأهلها، وكأنّ الواجب عليهم التمسّك بأوّل كلمة تصدر عنهم، لا التمسّك بالحقّ أين كان، ولذاترى صاحبنا أعاد الأمر عوداً على بدء في كتابه «ضربات المحدّثين»(2).

____________

1- وتره حقّة: أي نقصه. والترة بمعنى الثأر والانتقام. انظر الصحاح ٢: ٨٤٣ «وتر».

2- في الذريعة ١٥: ١١٥ – ١١٦: «ضربات المحدّثين على الحقّ المبين، في ردّ الإخباريين، للسيّد مهدي… طبعت سنة ١٣٤٧ ه، ومرّ ردّه الموسوم بتنزيه المؤمنين».

 

صاحب الصولة وكتابه ضربات المحدّثين

قال في كتابه «الضربات» ص ٤٥ في جواب منشور:

«ثمّ يا مسكين، فأيّ منافاة بين وصف الفرقة بالناجية، وبين خطأ جماعات منها في جملة من المسائل الشرعيّة غير الضروريّة، وبين تعمّد جماعات منها لعصيان ربّ البريّة بأخذ الرّبا، والزّنا، وشرب الخمر، والقمار، والغيبة، والبهتان، والسرقة، وعدم فعل الصلاة والزّكاة والصيام وغيرها؟

ثمّ من المعلوم أنّ هذه من الباطل مثل ضرب الطبول والبوقات والصّنج، وهتك عقائل النبوّة بأردأ التشبيهات، وضرب الرؤوس والظهور في التعزية بالسيوف والحديد». انتهى.

أمن الحقّ أن يساوي في معلوميّة أنّه من الباطل بين ضرب الرؤوس والظهور، وبين الكبائر الثابتة حرمتها وبطلانها بضرورة الدين؟! إذ غاية ما يمكن أن يقال في الضرب أنّه محلّ الخلاف، وكذا الكلام في بقية ما ذكره، سوى هتك العقائل فإنّه غيرجائز بضرورة الدين.

ودعواه وقوع الهتك في التشبيهات الصادرة مكذوبة، فإنّا لم نَر من يصنع الشبيه للنساء، فضلاً عن كونه بصورة الهتك.

ولو فرضنا وقوع الهتك اتّفاقاً، فلا يحرم إلاّ ذاك الفرد دون غيره، فإنّ أصل

تشبيه النساء بمثلهن جائز قطعاً وإن لم يقع في التمثيلات الصادرة.

نعم يشتمل التمثيل على المحامل، والأطفال، وشبيه زين العابدين عليه السلام .

وكيف يصنع الشيعة ما يوجب الهتك وهم أحسن الناس أدباً وأغيرهم على النساء، سيما عقائل النبوّة؟!

ولا أدري ما الذي دعاه إلى أن ينسب للشيعة أمراً هم منه براء! فيفسح للأغيار مجال النقد والتشنيع، ويفتح للأعداء باب المقال السييء على أهل الحقّ، فإنّا قد عذرنا أعداء آل محمّد صلي الله عليه و اله و سلم لو كان ثمّة من عذر، فما بال من يزعم ولاءهم أن يكون أدهى وأمرّ؟!

وإن أغرب الغريب التهجّم على تلك المواكب المتجوّلة في الطرقات، فإنّها ليست الاّ رواية تمثيلية تبيّن مظلوميّة أهل البيت عليهم السلام، وهمجية الظالمين لهم، ليدرك البشر فظاعة فعلهم وعداوتهم لرسول اللّه‏ صلي الله عليه و اله و سلم وأهل بيته الأطيبين عليهم السلام.

ولقد برهن الوجدان على تأثيرها الأثر النافع، وعرفه كلّ من لم يعمّ العناد عين بصيرته، ولايخطر في خلد ذي عرفان أن يتوّهم حرمة التمثيل إلاّ مثل هؤلاء الذين يطالبون بدليل الإباحة، مع أنّها هي الأصل في الشبهة التحريميّة عند كافة الأصوليّة، وهم يزعمون أنّهم منهم.

صاحب الصولة وتهوّره في الفتيا

وليس التهوّر في تحريم الشعائر الحسينية أوّل تهوّر صدر من صاحب الصولة! بل له تهوّرات كثيرة لاتنطبق على قاعدة أصلاً، صدرت منه في الأحكام وغيرها، ولايجمل بنا نشر كلّ ما اطّلعنا عليه، ولكن نذكر بعضه لتعرف صحّة ما ذكرناه.

فمن تهوّراته: إفتاؤه بوجوب الخمس في زكاة الفطرة، مع أنّها من المؤن، والمؤن لاخمس فيها.

ومنها: إفتاؤه بوجوب تغسيل الميّت بماء السدر على وجه يكون السدر مخرجاً له عن الإطلاق.

وهذه أقوال الفقهاء أمامك ليس فيها قول بوجوب الخروج عن الإطلاق، وإنّما غاية ما يمكن أن يدّعى وجود القول بجواز الخروج عن الإطلاق؛ وقد أنكر وجود القول به المحقّقون؛ لعدم تصريح أحد به، وإنّما يستنبط القول به من ذكر بعض العلماء غسل الرأس برغوة السدر، وفسّره المحقّقون بغسل الرأس المستحبّ قبل التغسيل الواجب.

ومنها: تحريمه أكل الدجاج الموضوع بالماء الحار قبل خروج أمعائه.

ومنها: إيجابه الكفّارة على من أدمى صدره في عزاء الحسين عليه السلام ، ولا

ندري ما وجه وجوبها؟! ومن أيّ شيء تخرج؟! وما قدرها؟! وفي أي محلّ تصرف؟

ومنها: تحريمه المعاملة مع البانق(1).

وأُورد عليه بأنّ الحاج حسين العطيّة قد حوّل إلى حجّتي الإسلام النائيني والسيّد أبو الحسن الأصفهاني مبلغاً من خيريّة الحاج موسى العطيّة على شعبة البانق في الحلّة، فكيف ساغ لهما القبض وهو من وجه خاصّ؟

فأجاب بأن قبضهما لذلك المبلغ من وجه آخر، غير ذلك الوجه.

قلت: لوكان الأمر كما ذكر، لوجب عليهما البيان بأنّ الجهة الخاصّة التي عيّنت الدراهم لأجلها لم تفرغ الذمّة منها، ولايمكن حملهما على الغفلة؛ لكثرة ابتلائهما بالبانق، وابتلاء من قبلهما من العلماء وجميع الفضلاء في الأعصار المتتالية، والجميع يقبضون الحوائل من الوجوه التي عيّنت لها.

ثمّ إنّي لست أعلم، لم تحرّم المعاملة بالتحويل والصرف مع البانق، إذا لم تُعلم حرمة شخص ا لمال المقبوض منه، ولم يكن كلّ ما تحت يده محلاًّ لابتلائنا؟!

وكذا المعاملة بالرّبا مع بعض أفراد البانق! كما أنّه في مقام حرمة المعاملة الربويّة معه ووقوعها، لا أعرف وجهاً لحرمة قبض أصل المال من البانق بالوجه الخاصّ حتى يحتاج إلى قبضه بوجه آخر، فعلى جوابه يذهب كلّ مال وضع في البانق هدراً.

ومن تهوّراته ما صدر له مع شيخ حبيب قُرين(2)، وجملة الواقعة: أنّ جناب

____________

1- أي البنك، وهو المكان المخصوص لحفظ الأموال، وأصله «ping».

2- ذكره الشيخ الطهراني في «الذريعة» ٢٤: ٢٣٤،١٢١٣ عند ذكر كتابه «نفع الزاد ليوم المعاد» قائلاً: «رسالة عمليّة لحبيب اللّه بن صالح الأحسائي نزيل البصرة، المتوفّى سنة ١٣٦٤ ه ، طبع في النجف، ورجع إلى تقليده أهل الأحساء بعد وفاة السيّد ناصر، وبعد موته رجعوا إلى تقليد الشيخ محمّد رضا آل ياسين، وقام مقامه في إقامة الصلاة بمسجده في قرية «فردلان» على شطّ العرب قبال عشّار البصرة ولده موسى بن حبيب».

وذكره السيّد هاشم محمّد الشخص في كتابه «أعلام هجر» ١: ٢٦٢ – ٢٦٨. قائلاً: «الشيخ حبيب اللّه‏ ابن الشيخ صالح ابن الشيخ علي القريني الأحسائي فقيه مجتهد ومرجع تقليد، أصله من القرين، إحدى قرى الأحساء الشمالية، ولهذا يقال له: «القريني» و«ابن قرين». وبيته من البيوتات العلميّة، وجلّ آبائه كانوا من العلماء الفضلاء.

ولد في قرية «گردلان» من توابع البصرة حدود سنة ١٢٧٥ ه ، وفيها تربى وقضى أيامه الأولى ودرس في النجف على شيخ الشريعة الأصفهاني، وبعد إكمال دراسته عاد إلى «گردلان» وأصبح زعيماً مطاعاً ومرجع تقليد، ثمّ رجع إلى الأحساء.

توفّى ليلة الاثنين ٢١ محرّم سنة ١٣٦٣ ه ، ودفن في مدينة الهفوف في إحدي مقابرها المعروفة، وأقيمت له المجالس، ورثاه عدد من الشعراء.

له مؤلّفات عديدة منها: نعم الزاد ليوم المعاد – وهي رسالته العمليّة – وحواشي متفرّقة على جملة من الكتب، وبعض الرسائل والأجوبة، وكتاب في الردّ على البهائية، ومناسك الحج، ورسالة في العقائد مختصرة».

أمّا الخلاف بينه وبين الشيخ حبيب قرين، فقد ذكر في ترجمة الشيخ مايلي:

حين كان المترجم له في الكويت بعد عودته من النجف، كان أحد علمائها المقيمين هناك السيّد مهدي القزويني الكاظمي المتوفّى سنة١٣٥٨ ه ، وكان العلمان قطبين بارزين على الساحة الكويتية. فحصل أن قام من ذوي السوء بالوشاية بالشيخ حبيب عند السيّد، وادّعوا – زوراً وبهتاناً – أن الشيخ حبيب يعتنق العقيدة الشيخية، فشن السيّد على المترجم له هجوماً عنيفاً، وألف فيه كتابه الموسوم بوار الغالين المطبوع سنة ١٣٣٢ ه .

واستمر السيّد في مهاجمة الشيخ بعد أن انتقل العلمان إلى البصرة، والشيخ حبيب لزم جانب الصمت ولم يرد بشيء، إخماداً لنار الفتنة وحفاظاً على وحدة الكلمة، لكن الموقف تضخّم واتّسعت الهوة بين الطرفين لمساعدة بيئته (البصرة) على ذلك.

عندها رأى أحد أعلام البصرة أنذاك وهو الحجّة الفقيه الميرزا محسن الفضلي الأحسائي أن يقوم بالصلح بين الطرفين، وكانت تربطه بكل من السيّد والشيخ علاقة خاصة.

يقول الدكتور الشيخ عبدالهادي الفضلي – نجل الميرزا محسن – في روايته للقصة: «فاختار (يعني الميرزا محسن) – كما سمعت ذلك منه رحمه اللّه‏ – الخطيب الشيخ عبدالحميد الهلالي والأستاذ محمّد جواد جلال ليكونا معه حاضرين وشاهدين على ما يدور من حوار بينه وبين كلّ من طرفي الموقف.

فبدأ (الميرزا) بمقابلة السيّد القزويني ومفاتحته بالسعي للصلح بينه وبين الشيخ آل قرين. وبدأ – قدّس سرّه – حديث الصلح مع السيّد بقوله: ما الذي تأخذه على الشيخ آل قرين؟

قال: اعتقاده معتقد الشيخية.

قال: لو أثبتنا لك بالوثائق المصدّقة التي لاتقبل الردّ أن اعتقاده لايختلف عن اعتقادنا ماذا سيكون موقفك؟

قال: هو الحلّ الذي سيؤدي إلى الصلح من غير ريب.

وأشهد – يرحمه اللّه‏ – رفيقيه الخطيب الهلالي والأستاذ جلال على المحضر.

وذهبوا إلى (گردلان) يمخرون عباب شط العرب بزورق شراعي عشاري وقابلوا الشيخ القريني وفاتحه الوالد (الميرزا محسن) بموضوع الإصلاح بينه وبين السيّد القزويني، فرحّب بذلك مستبشراً ليقضي على الفتنة التي امتد أوارها بازدياد من الكويت إلى البصرة.

فطلب (الميرزا) من الشيخ حبيب أن يكتب معتقده بخطّه ويختمه، فأجاب، وعادوا بالجواب وثيقة مدوّنة بخطّ يده وممضاة بختمه الرسمي إلى السيّد القزويني.

وعندما اطلع السيد القزويني على الوثيقة تراجع عن موقفه، وصعد المنبر ظهر يوم الجمعة في مسجده المعروف بمسجد السيّد ناصر عبد الصمد، وبعد أن أنهى مقدّمة خطبته بالبسملة والحمد له والثناء على الباري تعالى بما هو أهله والصلاة على نبيّنا محمّد وآله، أثنى على الشيخ حبيب آل قرين ثناءً عاطراً.

وقال – فيما قال من ثناء -: (لوكان الأئمّة المعصومون ثلاثة عشر لقلت: الشيخ آل قرين هو الثالث عشر).

وجمع الميرزا بينهما في مجلسه، ثم أقام كلّ واحد منهما للآخر وليمة كبرى في داره، وتمّ الصلح بينهما، وانتهى ما كان إلى إخوّة ووئام.

وفيما يلي نصّ الوثيقة التي كتبها الشيخ حبيب لبيان معتقده:

بسم اللّه‏ الرحمن الرحيموالحمد للّه‏ ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطيبين الطاهرين، والذي أعتقده وأواجه اللّه به يوم القيامة هو أن اللّه واحد لا شريك له في ذاته ولا عبادته ولا في خلقه ولا رزق ولاحياة ولا موت، وأنه لم يفوّض لأحد من خلقه شيئاً من ذلك ولا ذرّة من ذرات الوجود، وأن محمّد بن عبداللّه‏ عبده ورسوله بالمعاجز كانشقاق القمر وتسبيح الحصى في كفه، والآية الباقية هو القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عزيز حكيم، وانّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم عرج بجسمه الشريف بل بثيابه ونعليه، وأنه لاينطق عن الهوى، وأن على بن أبي طالب عليه السلام وصيّه وخليفته من بعده بالنصّ الجلي عليه منه، وبعده ابنه الحسن عليه السلام لنصّه عليه للبراهين الواضحة، وبعده الحسين عليه السلام حتى انتهت النوبة في الإمامة إلى الغائب المنتظر محمّد بن الحسن عجل اللّه فرجه، وأن اللّه يبعث من في القبور ويعيد هذه الأجسام الدنيوية فيجري عليها الثواب والعقاب.

على ذلك أحيا وأموت وأبعث حياً بعد الموت، وأبرأ إلى اللّه من خلاف ذلك وممّن يعتقد خلاف ذلك من شيخي وغيره. و استنباطي للفروع فعلى ما عليه أصحابنا الأصوليون، وأعتقد أن معتقدي هو اعتقاد الفرقة المحقّة. وما توفيقي إلاّ باللّه عليه توكّلت وهو حسبي ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، وأبرأ إلى اللّه‏ من كلّ معتقد للشيخيّة ليس معتقداً للشيعة وإني في الاستنباط أصولي، ربيع الاول ١٣٤٩ هـ .

تراب أقدام خادم شريعة سيّد الثقلين حبيب بن قرين.

          

السيّد المعاصر كان يقطن الكويت، وكان الشيخ حبيب يدخله أحياناً لحلول بعض من ينتمي إلى الفرقة الشيخيّة فيه، فوقع بينهما من الخلاف المذهبي ما أدّى إلى الشتّم والتكفير، كما تجده في كتاب السيّد «بوارالغالين»(1) الذي ألّفه سنة ١٣٣١ه لإثبات كفر الشيخ حبيب وأهل طريقته، مع التصريح باسمه، وأنّه ضالّ مضلّ.

وما انتهت تلك المشاغبة إلاّ بتوسّط بعض العلماء الأعلام بايقاع المهادنة، لا المسالمة.

ثمّ انتقل المعاصر إلى البصرة، وشيخ حبيب يقطن بعض أعمالها، والغلّ كامن في الصدور، وثابت في الآثار. فسعى بالإصلاح بينهما جماعة من أهل الأغراض، حتّى أدّى الحال إلى أن أئتمّ كلّ منهما بصاحبه، وقد وقفت على منشور لصاحبنا في الإطراء والثناء على شيخ حبيب بعد الصلح، وهاك نصّه:

____________

1- في الذريعة ٣: ١٥٣/٥٣١: «بوار الغالين، في الردّ على الشيخيّة، للسيّد محمّد مهدي ابن السيد صالح الكشوان الموسوي القزويني الكاظمي، المعاصر، أوله، الحمدللّه ربّ العالمين، ناصر المتشرّعين. طبع سنة ١٣٣٢».

 

بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم

الحمد للّه‏ رب العالمين، وصلّى اللّه‏ على محمّد وعترته الطاهرين.

أمّا بعد، فأبشّر عموم المسلمين وأهل الدين بخير بشارة، وهي ثبوت الوفاق الحقيقي على الحقّ وتشييده وترويجه بين الخلق، بين الحقير وسائر أهل العلم من الفرقة، وبين جناب ثقة الإسلام ومروّج الأحكام الشيخ حبيب قرين دامت بركاته، فالحمد للّه على ذلك، وله الشكر كما هو حقّه.

فيجب على كلّ مؤمن تعظيمه وتوقيره وتجليله بما يناسب مقام شرفه وعزّه، فمن عظّمه ووقّره – زيد فضله – فقد عظّم ووقّر إمام العصر عجّل اللّه‏ فرجه وصلّى على جدّه وآبائه الطاهرين وعليه وسلّم.

وما صدر بيني وبينه سابقاً، وما كان مني في حقّه ممّا يجلّ مقامه الشريف عنه، كان من سوء التفاهم، وقد كشف اللّه سبحانه بنور لطفه عن الحقائق، فصرنا أخوين متعاضدين في اللّه، وفي تشييد دينه، وترويجه. وقد ماتت كلمة الشيخي والشيخيّة، فنحن جميعاً اثنا عشرية أصوليّة، فإنّ هذه الفرقة هي الفرقة المحقّة على ما بيّنا ذلك في محلّه، فالحمد للّه‏ على هذه النعمة العظمى التي منَّ اللّه بها على هذه الفرقة.

٢٨ ربيع الأوّل سنة ١٣٤٦

الحقير محمّد مهدي الموسوي

بعينك تأمّل، أيمكن أن يقع سوء التفاهم بين متفقين في أصول الدين، مع ما وقع بينهما من المشاجرات التي أدّت إلى حكم السيّد بكفر الشيخ، ومرّ الأمر على ذلك نحواً حتّى خمس عشرة سنة، ثمّ بأيّام قليلة يرتفع سوء التفاهم حتى يكون الشيخ بنظر السيّد ثقة الإسلام ومروّج الأحكام، وأنّ توقيره وتعظيمه توقير وتعظيم لإمام العصر؟!

ليت شعري، مَن يبلغ هذه المنزلة والعظمة، كيف يخفى حاله تلك المدّة الطويلة مع كثرة وقوع الجدال والقيل والقال! أيجوز أن يشتبه الثرى بالثريّا؟!

ولو سلّم أنّ قصد المعاصر اللطف في التعبير بعد ما تحقّقت توبة الشيخ عن كفره، كما يزعمه أتباع السيّد، فياحبذا الوئام لوكان صحيحاً وتجلّى للمعاصر أمره، ولكن أليس شيخ حبيب وأصحابه الشيخيّة من يومهم إلى الآن فرقة منحازة وجماعة ممتازة، لايجتمعون مع الأصوليّة في شأن من الشؤون؟!

فلو أعلن شيخ حبيب، ولو في بعض أقواله، أنّه كان على رأي الشيخيّة، ثمّ تجلّت له الحقيقة وعدل إلى مذهب الأصولية، لكان رأياً، وإن بعد أن يكون في المدّة القصيرة ثقة الإسلام وبحكم إمام العصر في التعظيم والعظمة.

والشيخ يصرّح في مدافعاته ببقائه على حاله وعلى رأيه القديم، اجتمعت معه مرّة في دارنا بالعشر الأواخر من شهر شعبان سنة ١٣٤٦ ه ، فسألته بمحضر جماعة من الأشراف: هل تغيّرت عما كنت عليه من العقيدة؟

فأجاب: بأنّي لم أتغيّر ولم أتبدّل عمّا كنت عليه منذ نشأت، وأنّ السيّد ظلمني في كلّ ما نسبه إليّ.

وبالجملة، إن كان الشيخ من أوّل أمره ثقة الإسلام ومتّفقاً معنا في أصول الدين، فكيف يشتبه حاله بالكافر الضالّ المضلّ، مع كثرة الجدال وطول أيّام

الخلاف؟!

وإن كان كافراً من أوّل الأمر ثمّ تبصّر أخيراً كما يزعمه الجماعة، فكيف انقلب حاله في مدّة اسبوع على أن صار ثقة الإسلام ومروّج الأحكام ومحلاًّ للاقتداء،!

ولا أدري كيف تثبت عدالته بعد إعلانه بفسقه فيما عدى الكفر ممّا يقبح التصريح به، مع أنّه مستمرّ عليه إلى الآن؟

وأمّا اعتذاره في كتابه «ضربات المحدّثين» ص ٤٦ عمّا اعترض عليه في أمر الشيخ حبيب بقوله: «ثمّ يقال: يا مسكين أما يجتهد المجتهد فيفتي بإباحة شيء يبقى على إباحته مدّة طويلة من الزمان، ثمّ يجتهد مرّة ثانية فيفتي بتحريم ذلك الشيء». انتهى.

فغير صحيح، فإنّ التجدّد في الاجتهاد إنّما هو في الأحكام لا الموضوعات، وكيف يجتمع تبدّل الاجتهاد مع دعوى سوء التفاهم في الأمور الخارجيّة؟!

ومن تهوّراته طعنه في نسب السادة الأشراف آل البعّاج، ونسبهم كالشمس في رابعة النهار، وليست الخدشة من أمر في نسبهم الزكيّ ولكنّه من داء الحقد، وداء الحقد لادواء له. وإلاّ فإنّ نسبهم الطاهر فاح أرجه من انتشار هذه القبيلة في العراق والهند وإيران.

وهذا حجّة الاسلام الشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء دامت تأييداته الرّبانيّة، قد أخرج نسبهم ونشره على صفحات مجلة «المرشد».

وهذا العالم الفاضل السيّد محمّد رضا مصحّح مستند العلاّمة النراقي طاب ثراه، قد ذكر نسبه الطيّب عند ذكر المصحّحين، وكيفيّة التصحيح للمستند مرفوعاً إلى السيّد محمّد بن الإمام على الهادي عليه السلام ، فهل من مساغ بعد هذا لذي دين أن

يدّعى أن لاعقب للسيّد محمّد المذكور؟!

هذا ما سنح لي بيانه وعنّ لي ذكره، ويعلم اللّه تعالى أنّي أطلب به مرضاته والإرشاد بحسب الإمكان، فإنّي رأيت الناس في زماننا قد أجفلوا عن الدين إجفالاً، وأقبلوا على الباطل أقوالاً وأفعالاً، حتى أصبح الدين غريباً، والهدى عجيباً. ولولا ذلك لم يتسنّ لأحد الإنكار على المظاهر الحسينيّة، والمئاثر الدينيّة، سيّما بالألفاظ الغليظة المكذوبة.

وقد أخبرنا أئمّتنا الأطهار عليهم السلام بما تواتر عنهم من ارتداد أكثر المؤمنين عن دينهم في آخر الزّمان(1)، وقد شهد بصدقهم ما نراه في وقتنا من بغض الناس للآثار الدينيّة، وتكالبهم على معارف الدنيا الدنيّة، وأنّ من فخر الرجل أن يهزأ بالدين، وينبذ فروعه، ومن فخر المرأة أن تترك حياءها، وتطلب التعاليم التي لم ترض بها الشريعة.

فأنا ابتهل إلى ربّي واستشفع إليه بسيّد النبيين صلي الله عليه و اله و سلم وآله الطاهرين عليهم السلام أن لايجعل مصيبتي في ديني، وأن لايجعل الدنيا أكبر همّي ولا مبلغ علمي، وأن يوفّقني إذا اشتكلت عليَّ الأمور لأهداها، وإذا تناقضت الملل لأرضاها، وإذا تشابهت الأعمال لأزكاها، إنّه أرحم الرّاحمين وأكرم المسؤولين.

هذا التقريظ النفيس لحضرة العلاّمة المفضال الورع الشيخ محمّد علي الأوردبادي دام فضله :

لتعظيم الشعائر راح يدعـــــــو          كتاب للهدي لاريب فيـــــــــــــه

هو الحقّ المبين و ليس يــدري           مدي الحقّ المبين سوي ذويــه

فخذه مسلسلاًَ علماً يقينـــــــــــاً            روايته عن العلم النبيـــــــــــــه

أماط عن الحقيقة كلّ ســـــــــتر           همام جاء بالنقد النزيــــــــــــه

به (المهدي) جاء غداة أدلــــــي            بحجّته القويمة ملو فيــــــــــه

فدونك منه (إرشاد) البرايـــــــــا            ونجح المهتدي و مني الفقيــه

___________

1- انظر المجازات النبويّة: ١٩٣، خاتمة مستدرك الوسائل ١: ٢٩١.

                            

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.