سنة 1268هـ ـ 1851م ….. حوادث الشمرت والزقرت
في شهر رجب من هذه السنة هرب عدد من زعماء الشمرت على رأسهم الزعيم ظاهر الملحة من سجنهم في بغداد إلى النجف، لوصول الأخبار إليهم بتسلط الزقرت على الوضع في النجف، كما ورد ذلك في أحد الرسائل التي أرسلها والي بغداد إلى الأستانة، وفيما يلي نص تلك الرسالة:
معروض عبدكم: إن عدّة أنفار من رؤساء أشقياء طائفة الشمرت من أهالي قصبة النجف الموقوفين في بغداد تمكنوا من الفرار إلى النجف وتجرّأو على إحداث الفساد هناك، وقد تضمنت إحدى فقرات تقريري المرفوع بالبريد السابق إلى مقام الصدارة العالي كيفية مواجهة ودفع غائلهم. وعند الاستفسار من الأفراد المرقومين عن سبب مغادرتهم ومجيئهم إلى النجف بلا رخصة، وجمعهم زمرة من الأوغاد استعداداً للقتال، أجابوا بأنهم وصلوا النجف ودخلوها بلا استئذان بناءً على سماعهم أخبار بتسلط مخالفيهم من طائفة الزقرت، وقد تملكها الخوف على مصير رفاقهم بسبب ذلك. وبعد مرور عدة أيام من الاستعداد لمحاربة أعدائهم تأكدوا من عدم صحة المعلومات التي وصلتهم في بغداد، ولكونهم جاءوا مدينتهم فعلاً فقد التمسوا السماح لهم بالبقاء في بيوتهم، وأنهم صرفوا زمرة الأوغاد التي جمعوها تحت زعامتهم، وأن أهل القصبة مشغولون الآن بكسب عيشهم، وقد استتب الأمن والاستقرار من جديد حسب المستفاد من التحريرات الواردة من المبعوث الخاص إلى النجف، القائمقام صالح بك، ومدير القصبة شاكر أفندي، وقائمقام كربلاء قربى أفندي. ونظراً لكونهم على تلك الحال فإن ما يجب اتخاذه من إجراءات رادعة سينظر فيها في الوقت المناسب، وتبقى الأوضاع الآن كما هي قائمة. وفي حال تجاسرهم على إحداث المخالفات فسوف توجّه نحوهم قوة جنودية وافية من أجل القبض عليهم. وقد أرسلت التعليمات والتوجيهات المناسبة بهذا الخصوص إلى القادة العسكريين الحلة والديوانية. أما محرك وسبب كافّة هذه الاضطرابات هو الشقي وادي، وإنشاء الله تعالى سوف تزول جميع الاضطرابات ويستتب الأمن ويسود الاستقرار حال حصول تربيته.
لاطلاع مقام الصدارة العالي وفي كل حال فإن الأمر والفرمان لحضرة من له الأمر. 29/رجب/1268هـ مشير جيش العراق والحجاز ووالي إيالة بغداد
محمد نامق باشا
و في شهر ذي القعدة من هذه السنة قدم النجف الأشرف سليم باشا العثماني مع خمسة آلاف جندي تركي لتعقيب الحزبين المشهورين في النجف الشمرت والزقرت. وبعد انتهاء العمليات كتب والي بغداد محمد نامق باشا إلى الأستانة، كتاباً هذه صورته:
معروض عبدكم: سبق وأن عُرض على مقام وكالة الداخلية العالي، أن المدعو ظاهر الملحة هو أحد رؤساء طائفة الشمرت في قصبة النجف. رجل مفسد ومحرّك، لذا جلُب مقدماً إلى بغداد، وخلال فساد (وادي) هرب ظاهر الملحة إلى النجف مؤخراً، وقام زمرة المفسدين تحت زعامته، وتجاسر بممارسة الطغيان.
ونظراً لكون غائلة المرقوم (وادي) لا تزال مستعرة في ذلك الوقت فقد تقرر تأجيل معاقبة الأشقياء المذكورين إلى وقت آخر مناسب. ومنذ ذلك الوقت أخذت زمرة من الأشقياء المذكورين مؤلفة من (40 ـ 50) رجلاً مسلحاً تتجول وتقوم بالحراسة ليلاً في أطراف البيوت التي تجمعوا فيها، وتجبي الأموال من أصحاب الثروة بعد تخويفهم، وعندما راودتهم الشكوك باحتمال القبض عليهم وضعوا المتاريس على أطراف البيوت المذكورة استعداداً للمقاومة المسلحة. ومن الجانب الآخر أيضاً أعطيت لهم التأمينات والاستمالة من أجل كسب الوقت، وخلال ذلك وبفضل التوفيقات السلطانية اكتسبت أطراف الديوانية الأمن المطلوب، فتم إرسال طابورين من لواء المشاة الثاني الموجود في الديوانية المنسوب إلى فيلق العراق السلطاني (الهمايوني بصحبة أمير اللواء (مير آلاي) صاحب العزة بكر بك إلى النجف ملتحقاً بالطابوق الآخر الموجود مسبقاً في القصبة المذكورة، فنشأ من جراء ذلك من العصيان والطغيان مغاير للعدالة السنية، لذا تقرر اتخاذ ما يقتضيه الموقف من تدبير بأسرع وقت ممكن.
ولا يخفى على مقام الصدارة العالي أن قصبة النجف تحتضن مشهد أفندينا الإمام علي رضي الله عنه، ويسكنها عدد كبير من التبعية الأجنبية، وهي مدينة معظمة تحتوي على عشرين ألف بيت، ففي حال وقوع القتال داخلها سيصاب بعض الأبرياء بالأضرار، ويترتب على ذلك إثارة عدد من الشكاوى الأجنبية، لذا ينبغي تجنب ذلك قدر الإمكان في حال اندلاع القتال، مع ألأخذ بنظر الاعتبار إزالة مضرات الأشقياء المرقومين الحالية والآنية كلياً، وتأمين الاستقرار الكامل حسب مطلوب المقام العالي. ولما كان حصول هذا الأمر منوط بوجود قوة وافية مع شخص مناسب من الأركان العسكرية، وبما أن حضرة صاحب السعادة الفريق سليم باشا من أركان فيلق الأناضول السلطاني هو الشخص المناسب لهذه المهمة، فقد تنسب إرساله إلى النجف على رأس قوة عسكرية وافية وبصحبة نقيب بغداد وقائمقام كربلاء وبعض السادات والعلماء وزود بأمر إداري (بيورلدي) موجّه إلى الأهالي، كما أعطي التعليمات اللازمة في كيفية معالجة الموقف، والتأكد من عدم المساس بأموال وأملاك أي شخص ففي حالة الاضطرار إلى استعمال القوة. وطلب من القنصلين الإيراني والبريطاني المقيمين ببغداد إخبار تبعتهم والعمل على فرزهم عن زمرة الأشقياء. وبمنة الله تعالى ولدى وصول الفريق المشار إليه إلى هناك عرضت وتليت تحريراتي وأمري على الأهالي والأشقياء المرقومين. وجاء المرقوم ظاهر الملحة مسلّماً نفسه بين يديه بعد شعوره بالأمان فعيّن حرّاساً للمحافظة عليه وإخراجه وعائلته وعدد من رفاقه من النجف للإقامة في أطراف الحلة، وبعد مرور يومين ألقي على خمسة أنفار من رفاق المرقوم ورؤساء الفساد ومثيري الفوضى والاضطراب ووضعهم في الحبس بوسيلة ما لأن بقاءهم في النجف مضر بالأمن.
وأعقب ذلك هجوم أنصار البغاة على السجن بأمل أخذهم بالقوة فضربوا وجرحوا جنديّين من العساكر السلطانية، مما حدا بالطرف الآخر إلى المقابلة بالمثل، فاندلع القتال داخل المدينة منذ الساعة العاشرة بعد العصر، وتحصّن الشقاة في عدد من البيوت وعقبتهم العساكر وفرضت عليهم الحصار واستمرت المعركة حتى الساعة الرابعة ليلاً، وبعد ذلك لم يستطيع الأشقياء الاستمرار في المقاومة فألقوا أنفسهم من البيوت وهربوا. وفي اليوم التالي ألقي القبض على 72 نفراً من الذين لم يتمكنوا من الهرب وفضّلوا الاختفاء في بعض البيوت، وتمّ إرسالهم إلى بغداد.
وعلى الرغم من قيام بعض العساكر بنهب أشياء وأموال قليلة من البيوت التي اختفى بها هؤلاء أثناء التحري وإلقاء القبض عليهم إلا أن هذه المنهوبات جمعت فيما بعد ودون ضياع أي شيء منها وأعيدت إلى أصحابها بإشراف مجلس المدينة وعلمائها وساداتها، ونظمت بهذا الخصوص المضابط وأرسلت إلى بغداد.
وحمداً لله تعالى وبفضل القدرة السلطانية اندفعت الغائلة المزبورة وحصل الاستقرار الكامل في القصبة المذكورة. وبعد ترك مقدار مناسب من العساكر اتجه مع العساكر إلى أطراف كربلاء والمسيّب للقضاء بعون الله تعالى على عصيان (وادي) الذي يتجول في تلك الأطراف.
ونظراً لما أظهره الفريق المشار إليه من سعي وإقدام جميلين فإن تلطيفه محط علم الصدارة العالي، وبهذا الخصوص وعلى أي حال فإن الأمر والفرمان لحضرة من له الأمر.
9/ذي القعدة 1268هـ مشير جيش الحجاز والعراق ووالي إيالة بغداد
محمد نامق باشا
(تاريخ النجف الأشرف- ج 2/محمد حرز الدين )